[القسم الثالث: المنافقون]
والقسم الثالث هم المنافقون، وفيهم الإطالة والبيان والكشف عما يخفون من أمرهم؛ لأن خطرهم عظيم يهدد المجتمع كله.
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:٨-١٠] ، وانظروا إلى الإعجاز: قال في حق الكفار: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:٧] ، وقال عن المنافقين: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:١٠] فالقلب الذي عليه ختم يرجى صلاحه برفع الختم؛ لأن القلب أصله سليم، وغاية ما فيه أنه ختم عليه، فإذا أراد الله هدايته كشف عنه هذا الختم، ولكن الذي في قلبه مرض، فقد أصبح القلب بنفسه مريضاً، فيحتاج إلى علاج، والقلب المختوم لا يحتاج إلا إلى رفع الختم عنه فيشع النور بداخله، فهو أقرب إلى الخير من ذاك القلب المريض الذي يحتاج إلى معالجة؛ لأن المرض يؤدي إلى الموت، وقد يموت قلب المنافق.
ولهذا نجد المشرك في شدة عدوانه للإسلام وللرسول صلى الله عليه وسلم، وفي لحظة من اللحظات يؤمن وتشع له الحقائق وتنكشف له الأسرار فيبادر إلى الإسلام، وبقدر ما كان قاسياً شديداً على الإسلام يكون رحيماً كريماً مع المسلمين.
وأقرب مثال: إسلام عمر رضي الله تعالى عنه، فقد كان عمر آخذاً بالسيف ويسأل: أين محمد؟ فقيل له: لماذا؟ فقال: أريد أن أقتله، فقد سفه أحلامنا، وفرق جمعنا، وقال، وقال، فقيل له: على مهلك! اذهب وانظر إلى أختك وزوجها في بيتك.
قال: وما في بيتي؟! قالوا: أختك وزوجها قد صبئا فرجع من الطريق إلى بيت أخته فسمع همهمة، فلما أحسوا به اختفى المقرئ، فدخل والصحيفة في يد أخته، فقال: أعطني الصحيفة، قالت: إنك رجس، وهذا كتاب الله لا يمسه إلا المطهرون، فلطمها على خدها وفي يده خاتم، فخرج الدم من وجهها، فرقّ للدم، فقال: أريني الصحيفة ولا أريك إلا خيراً، قالت: اذهب فاغتسل أولاً، ثم أعطيك الصحيفة، فذهب واغتسل، ثم قرأ الصحيفة من كتاب الله، فإذا به يتحول من عدو لدود لأصحاب رسول الله إلى مؤمن محب لهم، وقذف الله في قلبه الإيمان، وكشف عن قلبه الغطاء، وكشف الغشاوة عن بصره، وتحرك النور في قلبه، وأبصر بعينيه وبصيرته حقيقة الأمور، فخرج الرجل الذي كان مختفياً، وقال: ماذا تريد يا عمر؟! قال: دلني على محمد، فذهب به، وطرق باب دار الأرقم بن أبي الأرقم، فقالوا: من؟ قال: عمر، ففزع كل من كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ائذنوا له، إن كان جاء لخير يصيبه، وإن جاء لغير ذلك يكفيكم الله) ، فأدخله اثنان والتزماه بعضديه مخافة على رسول الله، حتى جلس بين يدي رسول الله، فأمسكه صلى الله عليه وسلم بردائه وجذبه، وقال: أما آن لك أن تؤمن يا عمر؟! فإذا عمر ينطق بالشهادتين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقول عمر رضي الله عنه: لماذا نبقى هنا؟! لماذا لا نخرج إلى الكعبة ونطوف، ونعلن الإسلام؟ فقال المسلمون: نحن ضعفاء.
فقال: لا والله! لا نستتر بعد اليوم، وخرجوا إلى الكعبة يلبون ويهللون، ويذكرون الله ويعلنون الشهادتين، قال السلف: ما زلنا أعزة منذ أن أسلم عمر.
إذاً: يقول الله في حق المشركين: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:٧] ، ويقول وفي حق المنافقين: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة:١٠] .
قال الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} إلى قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:٨-١٦] ، سياق طويل ينتهي بصفقة خاسرة.
هؤلاء المنافقون اشتروا الضلالة بالهدى.
اشتروا بمعنى: (استبدلوا) ، قال بعض الرجاز: اشتريت الجمة برأس أزعرا والثنايا البيض بالدردرا كما اشترى المسلم إذ تنصرا أي: استبدل بالإسلام النصرانية، فكذلك هؤلاء اشتروا الضلالة بالهدى، والباء تدخل على المتروك، تقول: اشتريت الكتاب بدرهم، فالدرهم هو قيمة الكتاب، اشتريت الكتاب بثوب، كلاهما سلعة، فيكون الباء على الشيء الذي خرج من يدك، فهؤلاء كذلك: {اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:١٦] .