[حال سلفنا الصالح مع الإخلاص]
أيها الإخوة والأخوات! اسمعوا شيئاً من حال -سلفنا الصالح- لعل أن يكون في ذلك يقظة لقلوبنا من غفلتها ودعوةً إلى الصدق والإخلاص.
قال الربيع بن خثيم: [كل ما لا يراد به وجه الله يضمحل] .
ووصى الإمام أحمد ابنه قائلاً: يا بني، انوِ الخير فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير.
نعم.
يا أخي! انوِ الخير فإنك بخير ما نويت الخير.
وقال أيوب السختياني: والله ما صدق عبد إلا سره ألا يشعر بمكانه.
سأل رجل شقيق بن إبراهيم: إن الناس يسمونني صالحاً، فكيف أعلم أني صالح أو غير صالح؟! فقال شقيق: أظهر سرك عند الصالحين، فإن رضوا به فاعلم أنك صالح وإلا فلا.
أي: أحسن ما بينك وبين الله من أسرار، وإلا فالمؤمن مطالب بالستر على نفسه.
وكان محمد بن يوسف الأصبهاني لا يشتري زاده من خباز واحد، ويقول: لعلهم يعرفونني فيحابونني، فأكون ممن يعيش بدينه.
وقالت سرية الربيع بن خيثم: كان عمل الربيع كله سراً، إن كان ليجيء الرجل، وقد نشر المصحف، فيغطيه بثوبه.
وكان إبراهيم النخعي إذا قرأ في المصحف فدخل داخلٌ غطاه.
وقال الشافعي: وددت أن الخلق تعلموا هذا على ألا ينسب إليَّ حرف منه.
وكان ابن المبارك رحمه الله يضع اللثام على وجهه عند الغزو، قال عبدة بن سليمان: فأخذت بطرفه فمددته، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا-أي يفضحنا-.
ودخل ابن محيريز حانوتاً بـ دانق وهو يريد أن يشتري ثوباً، فقال رجل لصاحب الحانوت: هذا ابن محيريز فأحسن بيعه، فغضب ابن محيريز وخرج، وقال: إنما نشتري بأموالنا لسنا نشتري بديننا.
وقال خلف بن تميم: رأيت سفيان الثوري بـ مكة، وقد أكثر عليه أصحاب الحديث، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! أخاف أن يكون الله ضيع هذه الأمة حيث احتيج إلى مثلي.
وقال الإمام أحمد: كان سفيان الثوري إذا قيل له: رؤي في المنام، يقول: خل عنك أنا أعرف بنفسي من أصحاب المنامات.
وقال له رجل: رأيت كأنك في الجنة، فقال له: ويحك! أما وجد الشيطان أحداً يسخر به غيري وغيرك؟.
وإبراهيم النخعي كان يقول: [تكلمت، ولو وجدت بداً ما تكلمت، فإن زماناً أكون فيه فقيه الكوفة لزمان سوء] .
وقال الحسن البصري: [إن الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها، فإذا خشي أن تسبقه قام] .
وقال محمد بن واسع: [لو كان يوجد للذنوب ريحٌ ما قدرتم أن تدنوا مني من نتن ريحي] .
ويقول أيضاً: [لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة؛ قد بل ما تحت خده من دموعه لا تشعر به امرأته، ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف، فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي إلى جنبه] .
أما حسان بن أبي سنان، فتقول عنه زوجته: كان يجيء فيدخل في فراشي ثم يخادعني كما تخادع المرأة صبيها، فإذا علم أني نمت سل نفسه فخرج، ثم يقوم يصلي.
وهذا زين العابدين علي بن الحسين رحمه الله، كان يحمل جرابَ الخبز على ظهره في آخر الليل فيتصدق به ويقول: [إن صدقة السر تطفىء غضب الرب عز وجل] .
وكان أهل المدينة يقولون: [ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين] .
وعمرو بن قيس الملائي أقام عشرين سنةً صائماً ما يعلم به أهله، يأخذ غداءه ويغدو إلى الحانوت فيتصدق بغدائه، ويصوم وأهله لا يدرون، وكان إذا حضرته الرقة -أي: البكاء- يحول وجهه إلى الحائط، ويقول لجلسائه: ما أشد الزكام.
سبحان الله!
بدم المحب يباع وصلهم فمن الذي يبتاع بالثمن؟
والقصد أيها الإخوة! القصد بيان صور من حرصهم رحمهم الله على خلوص الأعمال مهما كانت، وليس معنى هذا -تنبهوا! - ليس معنى هذا أن الإخلاص صعبُ المنال، بل هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولذا فأمره سهل ميسور على من يسره الله عليه، وجدّ في طلبه، وجاهد نفسه من أجله، فعلى العبد فقط أن يكون مراده بجميع أقواله وأعماله الظاهرة والباطنة ابتغاء وجه الله تعالى، كما قال تعالى: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:١٩-٢٠] وقال: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:٩] وقال الحق عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:٥] ويقول عز وجل: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:١١-١٥]-نعوذ بالله من الخسران-.