أخذت كتاباً من مكتبة المدرسة يقول فيه صاحبه: إنه يرد على فضيلتكم في قضية قديمة مطبوعة، يقول: إنكم تقولون: معية الله للخلق معية ذاتية، أرجو الفصل في هذه القضية، وهل يقرأ هذا الكتاب أم لا يقرأ؟
نحن تكلمنا على مسألة المعية وقلنا: إن المعية معية حقيقية، أنه سبحانه وتعالى نفسه مع خلقه لكن ليس في الأرض، وذكرنا أدلة على ذلك، منها سياق الآيات الكريمة، مثل:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[الحديد:٤] .
الضمائر هذه كلها تعود إلى الله، فإذاً هو ذات، لكن لا يعني ذلك ما ذهبت إليه الجهمية الذين يقولون: إن الله في الأرض، فهذا نرى أنه ضلال وكفر، وأن من اعتقده في ربه فهو كافر، لكننا نقول: هو معنا وهو في السماء، فهو معنا حقيقة وهو في السماء، ولا منافاة.
فإذا قال قائل: كيف يكون معنا وهو في السماء؟ جوابنا على هذا من عدة وجوه.
الوجه الأول: أن الله قال: {وَهُوَ مَعَكُمْ}[الحديد:٤] وقال: هو في السماء، ومادام أنه قال: هو معنا وهو في السماء نؤمن بهذا وهذا، ولا يمكن أن يخبر الله بشيء ثم يخبر بضده مما يناقضه أبداً، والأمور الغيبية ولاسيما فيما يتعلق بذات الله، لا يجوز للإنسان أن يسأل كيف ولم؛ لأنه مهما كان لا يمكنه أن يدرك هذا.
الوجه الثاني: أنه لا منافاة بين العلو والمعية، قد يكون الشيء معك وهو بعيد عنك، ولهذا العرب كان من كلامهم أنهم يقولون: ما زلنا نسير والقمر معنا، ما زلنا نسير والقطب معنا، وما أشبه ذلك، ومن المعلوم لكل أحد أن موضع القمر وموضع القطب في السماء، وتطلق العرب عليه أنه معها، ولا يرون هذا منافياً لهذا، وإذا كان لا منافاة في العلو والمعية في حق المخلوق ففي حق الخالق من باب أولى.
الوجه الثالث: على فرض أن هذا لا يتصور في المخلوق، أن يكون بعيداً عنك وتقول: إنه معك، على فرض شيء غير واقعي، نقول: على فرض أن ذلك لا يقع بالنسبة للمخلوق فهو واقع بالنسبة للخالق؛ لأن الله تعالى محيط بكل شيء السماوات السبع والأرضين السبع في كفه عز وجل كخردلة ما هي بشيء، يوم القيامة يطوي الله سبحانه وتعالى السماء كطي السجل للكتب، الكاتب إذا طوى الورقة سهل عليه، ما هي صعب، ويقول عز وجل:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً}[الزمر:٦٧] كل الأرض بما فيها من بحار وأنهار وأشجار وغيرها {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}[الزمر:٦٧] كل السموات السبع التي لا يعلم قدرها إلا الله عز وجل (مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) فالله عز وجل محيط بكل شيء، لكن أن نقول كما قالت الجهمية: إنه معنا في الأرض هذا كلام باطل، فنحن نقول: إن الله معنا حقاً، وكما قاله غيرنا كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من العلماء ولكننا لا نقول: إنه معنا هنا في الأرض، ونقول: من قال ذلك فهو ضال وكاذب، لكن بعض الناس فهم من هذا فهماً خطأً ونحن بريئون منه والحمد لله، من أول عقيدتنا إلى أن نلقى الله عز وجل، أن نقول: إن الله معنا في الأرض هذا لا نقول به إطلاقاً، ففهم بعض الناس هذا الفهم وإذا فهم هذا فلا شك أن هذا منكر يجب إنكاره، فهو إذا كانت نيته حسنة لا يلام على هذا، وإن كان سيئاً فالله يتولى السرائر.