للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٢ - وأما البلاغةُ فهي الفصاحة. يُقالُ بلُغَ الرّجلُ بضم اللامِ فهو بليغٌ، ولا فرقَ بين البلاغة والبيان إلا في اللّفظِ. وسُئِلَ بعضُهم عن البلاغة فقال: كلامٌ وجيزٌ معناهُ الى قلبكَ أقربُ من لفظِه الى سَمْعِك. وقال جعفر بن محمد الصادق رضيَ اللهُ عنه: إنما سُمِّي البليغُ بليغاً لأنه يبلُغُ حاجَتَهُ بأهونِ سعيهِ. وقال ابن الأعرابي: قال المفضلُ الضبّيُّ: سألتُ أعرابياً عن البلاغةِ فقال: الإيجازُ في غير عجْزٍ، والإطْنابُ في غير خَطْلٍ. وقيلَ للعتّابي: ما البلاغةُ؟ فقال: مَنْ أفهمَكَ حاجتَهُ من غيرِ إعاقةٍ ولا حُبْسةٍ ولا استعانَةٍ. وسُئِلَ بعضُ الحكماءِ عن البلاغةِ فقال: مَنْ أخذَ معانيَ كثيرةً فأدّاها بألفاظٍ قليلةٍ، وأخذَ معانيَ قليلةً فولّد منها ألفاظاً كثيرةً فهو بليغٌ. وقيلَ: البلاغةُ ما كان من الكلامِ حسَناً عند استماعِهِ، موجَزاً عند بديهتِهِ. وقيلَ: البلاغةُ لمحة دالّةٌ على ما في الضمير. وقيلَ: البليغُ الذي يبلغُ ما يريدُ، أطالَ أم قصّرَ. وقال بعضُهم: البلغةُ تصحيحُ الأقسامِ، واختيارُ الكلام. وقيلَ: البلاغةُ معرفةُ الفَصْلِ من الوَصْلِ. وأقول أنا: إن تركيبَ ب ل غ معناه إدراك ما يحاولُه الإنسان عن قوّة، وتمكُّنٍ من قدرةٍ. فمن ذلك بلَغْتَ الأمرَ والغرَضَ إذا وقفتَ على غايتِه، وأشرفتَ على نهايتِه، ولولا قوّتُك عليه لما وصلتَ إليه. ومن ذلك البلاغةُ، فإنّك إذا وقفتَ على غاياتِ الكلام ونهايات المعاني، دلّ ذلك على قُدرتِكَ في الأدب وتمكّنِك من لُغةِ العرب. فإنْ أوْجَزْتَ أو أسهبتَ كنتَ فيه بليغاً وكان ما أتيتَ به بلاغةً. ومن ذلك غ ل ب، فإنّ الغَلَب لا يكون إلا عن قوة وتمكّن وقُدرة. ومن ذلك ل غ ب اللُّغُوبُ هو التعبُ ولا يكون ذلك إلا عن دأبٍ وشدةِ حركة تدلُ على قوّةٍ وقدرةٍ على الحركات وتمكنٍ من السعي العنيفِ في سائرِ الأوقات. ومن ذلك ب غ ل يقالُ بغّلَ الفرسُ إذا سارَ بين العَنَق والهَمْلَجَة، ومنه التبغيلُ وهو مشْيٌ سريعٌ فيه اختلافٌ ولا يكون ذلك إلا عن قوة وقدرةٍ على السّعي.

ومنْ أعلى درجات البلاغةِ وأرفعِها في الكلام المنثور قولُه تعالى: " وقيلَ يا أرضُ ابلَعي ماءَكِ ويا سَماءُ أقْلِعي، وغِيضَ الماءُ وقُضِيَ الأمرُ واسْتَوَتْ على الجوديِّ وقيلَ بُعْداً للقَوْمِ الظالمين ". وقوله تعالى: فاصْدَعْ بِما تُؤمَرُ) . ومن البلاغةِ في الكلام المنظوم قول امرئ القيس:

قِفا نبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزل ... ............

فإنّه وقفَ واستوقَفَ، وبكى واسْتَبْكى، وتغزّل بذكرى الحبيبِ والمنزلِ في نصفِ بيْتٍ. وقال طرَفَة:

ولستُ بحلاّلِ التِّلاعِ مَخافَةً ... ولكنْ مَتى يسْتَرفِدِ القومُ أرْفِدِ

المعنى أكثر من اللفظِ. يقولُ لستُ أحُلُّ بالمواضعِ الخفيةِ مخافةَ القِرى، ولكني أحُلُّ بالمواضع الظاهرةِ التي لا تَخفى على الضّيْفِ الطارقِ. فإذا استُقريتُ قَرَيْتُ. فأوردَ كلاماً يدلّ على نفيهِ عن نفسِه نزولَ التِّلاعِ خوفاً فقط. فلما ذكرَ في النصفِ الثاني الرِّفْدَ، دلّ على أنّ المخافةَ في القِرَى، ولم يقابل اللفظَ بأن يقول: ولكن أحُلُّ باليَفاع بارزاً وأشجُعُ، فاكتفى بمعرفةِ السامِعِ وبما دلّ الكلامُ عليه. وهذه بلاغةٌ ناصِعةٌ.

٣ - وأما الفصاحةُ فإنّ الكلامَ عليها يحتاجُ الى شرحٍ طويلٍ يخرُجُ بنا عمّا نحنُ بصددِه والاقتصارُ عليه غير شاف ولا كاف. وقد استوفَيْنا أقسامَ ذلك في الرسالة العلويّة، وحَذَوْنا فيه حذْوَ عبد الله بن سِنان الخَفاجي في صدر كتابِه الموسوم بسرِّ الفصاحةِ. والفصاحةُ مشتقةٌ من الكَشْفِ وارتفاع اللَّبْسث. يُقالُ أفصحَ اللبنُ إفصاحاً إذا ذهبَ اللِّبَأ عنه، وخلَصَ اللبنُ منه. وأفصحَتِ الناقةُ فهي مُفْصِحٌ إذا انقطعَ لِبَؤُها وخلَصَ لبَنُها. وفصُحَ اللبنُ إذا كشَفْتَ رُغْوَته عنه. قال الشاعر:

............ ... وتحتَ الرُّغْوَةِ اللبنُ الفصيحُ

وأفصحَ الصُبْحُ إذا انكشفَ وبَدا. وكلُّ واضحٍ مُفْصِحٌ. وعلى ذلك فكلُّ ناطق فصيحٌ، وما لا يَنطِقُ فهو أعجَمُ. فهذه نُبْذةٌ يسيرةٌ في هذا الموضع كافية.

<<  <   >  >>