ومعنى النحو انتحاءُ سمْتِ كلامِ العربِ في تصرفِهِ من إعرابٍ وتثنية وجمْع وتكسيرٍ وتحقير وإضافة ونسبٍ وغير ذلك. وهو في الأصل مصدرٌ شائعٌ من قولكَ نحوتُ نحْواً، أي قصدتُ قصداً، ثم خُصّ به انتحاءُ هذا النوعِ من العِلْمِ فصار كالمقصور عليهِ دونَ غيرِهِ كما أنّ الفِقْهَ في الأصل مصدرُ فَقِهْتُ الشيءَ أي عرفتُهُ. ثم خُصّ به علم الشّريعة من التحليل والتحريم، وكما أن بيتَ اللهِ خُصّ به الكعبةُ وإنْ كانت البيوت كلها لله تعالى. ونظائرُ ما كان شائعاً ثم قُصِرَ في جنسِه على أحد أنواعِهِ كثيرةٌ. وحُكِيَ عن أعرابيٍّ أنّه قالَ إنك لتَنظُرون في نُحُوٍّ كثيرةٍ فشبّهها بعُتُوٍّ وهو قليلٌ في كلامِهم. والوجهُ في مثلِ هذه الواو، إذا جاءتْ في جَمع، الياءُ كقولهم في جمْع حَقْوٍ حُقِيٌّ. وأول من نطَق بالنحوِ عليٌ رضي الله تعالى عنه والحكايةُ في ذلك معروفة، ولمّا وضحَ بمثالِه المنْهَج، واتّضحَ بمقالِه المستقيمُ والأعوجُ، تشعّبتِ السبلُ فيه، واتّسعتِ العِللُ في معانيه. والأصل ثلاثُ كلِمات: اسمٌ وخبرٌ وأداةٌ تدلُّ على معنى. فالاسمُ كلُّ موصوفٍ من الخَلْقِ. والخلقُ ثلاثةُ أشياءٍ: إما جسمٌ أو لونٌ أو فِعْلٌ. وأما الخبَرُ فكلُّ ما أثْبَتَ مجهولاً أو أقامَ وصفاً من اسمٍ أو غيره. إلا أن الكلمة التي خَصَصناها به الكلمةُ التي لا يقعُ لفظُها إلا خبراً، وهيَ كلُّ كلمةٍ دلّتْ على حدوث حركةٍ مؤقتة، من نحو قولِك فعَلَ ويفعَل، أو فُعِلَ أو يُفْعَلُ. وأما ما كان يقع مرة خبراً ومرة مُخبَراً عنه، فكرهنا أن نُسمّيهُ خبراً إذ لم تدُم حالُه. وأما الأداةُ فكل ما عَدا أن يكون اسْماً أو خَبراً. وهي كلمةٌ لا تقعُ وصْفاً ولا موصوفاً. والكلمة التي سمّيناها خبراً هي في تسمية النّحويينَ فعلٌ وذلك خطأ. لأن قولك فَعَل أو يفعَلُ أو فُعِلَ أو يفْعَلُ إنما هو إخبار بحدوثِ الفِعل ووقوعِه، والإخبارُ بحدوثِ الشيء خلاف الشيء، ولو كان فَعَلَ أو يَفْعَلُ فِعْلاً، لأمكنك أن تصِفَه فتحمدَه أو تذُمَّه كقولِكَ نِعْمَ الفِعْلُ آمَنَ وأصلح، وبِئسَ الفِعْلُ كفَرَ وأفسدَ. فهذه جملةُ تفسيرِ الكلمِ الثلاث التي حصَرَ بها عليٌ رضيَ اللهُ عنه الألفاظَ وجمعَ بها المعاني، ولكلّ ضَرْبٍ من هذه الثلاثةِ الأضربِ، ضروبٌ مختلفةٌ وشُعَبٌ متفرقةٌ ومعانٍ متباينةٌ قد فرغَ منها النحويونَ في كتبهِم. وما أورده فعليهِ اعتراضاتٌ قد أجابَ عنها أبو علي علي عللِ المنطقِ ولكلامهِ حكَيْتُ، وعنه رَوَيْتُ.
والشعرُ فلا يسلمُ أديمُهُ من النَّفَلِ، ولا يصِحُّ مريضُهُ من العللِ إلا بمعرفة النحو وامتدادِ الباعِ فيه، والوقوفِ على غامضِهِ وخافيهِ، كما قال المُحْدَث:
وإذا أردتَ من العلومِ أجلَّها ... فأجلُّها منها مُقيمُ الألْسُنِ