الفصل الثاني: فيما يجوز للشاعرِ استعمالُه وما لا يجوزُ، وما يدرَكُ به صوابُ القوْلِ ويجوزُ.
الفصل الثالث: في فضلِ الشعرِ ومنافعِهِ، وتأثيرهِ في القلوبِ ومواقعِهِ.
الفصل الرابع: في كشْفِ ما مُدِحَ به، وذُمَّ بسببهِ، وهل تعاطيهِ أصلح، أم رفضُه أوفرُ وأرجح.
الفصل الخامس: فيما يجبُ أن يتوخّاه الشاعِرُ ويتجنّبه ويطّرِحه ويتطلبَه.
[الفصل الأول]
[في وصف الشعر وأحكامه]
[وبيان أحواله وأقسامه]
أوّل ما أبدأ به في هذا الفصلِ فأقولُ إنّ اشتقاقَ لفظةِ الشِّعرِ من العلمِ والإدراكِ والفطنةِ تقول: ليْتَ شِعْري هلْ أصابَ صوْبُ السماءِ منازِلَ أسماءَ، أي ليت علمي. قال الشاعر - أنشده ابنُ الأعرابي:
يا ليْتَ شِعْري والمُنى لا تَنْفَعُ ... هلْ أغْدونْ يوْماً وأمري مُجْمَعُ
وتحتَ رَحْلي زَفَيانٌ مَيْلَعُ ... حرْفٌ إذا ما زُجِرَتْ تبَوَّعُ
كأنّها نائحةٌ تفجَّعُ ... تبْكي لمَيْتٍ وسواها الموَجعُ
زَفَيان: ناقةٌ تَزيفُ في مَشيِها، وميلعٌ: سريعةٌ ناجية.
وسُمّي الشاعرُ شاعراً لعلمه وفطنتِهِ.
وأما كونُهم سمّوا الشعرَ قريضاً فلأنّ اشتقاقه من القَرْضِ وهو القطْعُ لأنه يُقْرَضُ من الكلامِ قرْضاً، أي يقطعُ منه قَطْعاً كما يُقْرَضُ الشيءُ بالمِقْراض. قال الله تعالى: " وإذا غَرَبَتْ تَقرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمال " أي تجوزُهُم وتَدَعُهُم على أحدِ الجانبين. قال عبد العزيز بن حاتم بن النعمان ابن الأحمر، وكان يهاجي الفرزدق:
أنفي قَذَى الشِّعرِ عنهُ حينَ أقْرُضُه ... فما بِشعْريَ من عيْبٍ ولا ذامِ
كأنّما أصْطَفي شِعري وأغرِفُه ... من مَوْجِ بحْرٍ غزيرٍ زاخرٍ طامِ
منهُ غرائِبُ أمثالٍ مُشهَّرةٍ ... ملمومةٍ، إنها رَصْفي وإحكامي
وأما القصيدُ، وهو جمْعُ قصيدةٍ مثل سَفين جمع سَفينة، فإنما اشتُقّتْ لفظتها من القِصْدَة وهي القِطْعة من الشيء إذا تكسّرَ كأنها قِطعةٌ من الكلام. ومن ذلك رُمْحٌ قِصَدٌ وقد تقصّدَ إذا صار قِطَعاً. قال المُسيَّبُ بنُ عَلَس:
فَلأُهدِيَنّ مع الرِّياحِ قصيدةً ... مني مُغلْغَلَةً الى القَعْقاعِ
ترِدُ المياهَ فلا تزالُ غريبةً ... في القَوْمِ بين تمثُّلٍ وسَماعِ
وأما تسميتُهُم القصيدةَ قافيةً فلأن القافيةَ تقفو البيتَ أي تتبعُهُ وسمّوا الجميعَ باسم واحدٍ إيجازاً واختصاراً كما سمّوا القصيدةَ بجملتها كلمةً، والكلمةُ اللفظةُ الواحدة، ميلاً الى اختصار الكلام وإخلاداً الى ما يدلُ فيه على التمام. قالت الخنساء:
وقافيةٍ مثل حدِّ السِّنانِ ... تبْقَى ويهلِكُ مَنْ قالَها
نطقتَ ابنَ عمروٍ فسهّلْتَها ... ولمْ ينْطِقِ الناسُ أمْثالَها
وأقول: إنّ الشعرَ عبارةٌ عن ألفاظٍ منظومة تدلُّ على معانٍ مفهومة، وإن شئتَ قلت: الشعرُ عبارةٌ عن ألفاظ منضودة، تدلُ على معانٍ مقصودة. فإذا قيسَ به النثرُ كان أبرعَ منه مطالِعَ، وأنْصَعَ مقاطع، وأجرى عِناناً، وأفصحَ لساناً، وأشردَ مثلاً، وأعضدَ مُنْصُلاً، وأسدَّ سِهاماً، وأشدَّ خِصاماً، وأنْوَرَ نجْماً، وأزهر نَجْماً، وأبقَى مياسِمَ، وأنْقَى مباسِمَ، وأذكى مناسِمَ، وأزكى معالِمَ، وأرشقَ في الأسماع، وأعلَقَ بالطِّباع.
وقال الأصمعي: الشعرُ ما قَلّ لفظُهُ، وسهُلَ ودَقّ معناه ولَطُفَ، والذي إذا سمعْتَهُ ظننْتَ أنك تنالُه، فإذا حاولته وَجدتَه بعيداً، وما عدا ذلك فهو كلامٌ منظومٌ. وقال بعض البُلغاء: الشِّعرُ عبارةٌ عن مثَلٍ سائرٍ وتشبيه نادرٍ واستعارةٍ بلفظٍ فاخر.
وروى لي الغزنويّ عن هبةِ الله المعروفِ بابنِ الشجريّ قال: حدّثني أبو زكريا التبريزي قال: كنتُ أسألُ المعرّي عن شعرٍ أقرؤُه عليه فيقول لي: هذا نظمٌ جيّدٌ. فإذا مرّ به بيتٌ جيدٌ قال يا أبا زكريا هذا هو الشِّعر.
وأما الشِّعرُ فيحتاجُ الى آلات، وفيه ألقابٌ وله صفات. ونحن نذكرُ ذلك مجملاً، ونشرحُه مفَصَّلاً، ولا نقصدُ فيه الترتيب، إذ تقديمُ فصلٍ على فصلٍ غير مفتقر الى التهذيب.
في الشعر: