٤ - وأما الحقيقةُ والمجازُ، فإن الحقيقة ما أُقِرَّ على أصل وضعِه في اللغة عند استعمالِه. والمجازُ ما كان بضدِّ ذلك. وقال علي بن عيسى الرُّماني: الحقيقةُ الدِّلالةُ على المعنى من غير جهةِ الاستعارةِ، والمجازُ تجاوزُ الأصلِ الى الاستعارة. وإنما يُعْدَلُ عن الحقيقة الى المجاز لمعانٍ ثلاثةٍ وهي: الاتساعُ، والتوكيدُ، والتشبيهُ، فإن عُدِمَتْ هذه الأوصافُ كانت الحقيقةُ أولى بالاستعمال. قال الله تعالى:" وأدْخَلناهُ في رَحْمَتِنا "، هذا مَجازٌ وفيه الأوصافُ الثلاثة. أما السَّعةُ فإنه زادَ في أسماءِ الجهات، والمحلُّ اسم وهو الرّحمة. وأما التشبيهُ فإنّهُ شبّهَ الرحمةَ، وإن لم يصِحَّ دخولُها، بما يجوزُ دخولُه، ولذلك وضَعَها موضِعَه. وأما التوكيدُ فإنه أخبَرَ عن العَرَض بما يخْبَرُ به عن الجوهر. وهذا تَعالٍ بالعَرَض وتفخيمٌ له، إذ صُيِّرَ في حيّز ما يُشاهَدَ ويُلمسُ ويُعايَنُ. ومن المجاز في أشعارِ العربِ كثيرٌ لا يُحصى. فمنه قولُ الأول:
غَمْرُ الرِّداءِ إذا تبسّم ضاحكاً ... غَلِقَتْ لضِحكتِه رِقابُ المالِ
جعل للشمسِ رداءً وهو جوهرٌ لأنه أبلغُ من النورِ الذي هو عَرَضٌ. وكلّ ما كان من هذه الاستعاراتِ فإنهُ داخلٌ تحت المجاز. وقال جلّ جلالُه:" فمَنْ يكْفُرْ بالطّاغوتِ ويؤمنْ باللهِ فقدِ استَمْسَك بالعُرْوَةِ الوُثْقى لا انفصام لها واللهُ سميعٌ عليم ". فبدأ في الآية بحقيقة الكلام، ثم جعلَ الجوابَ مجازاً واستعارةً لوقوعِه آكَدَ منَ الحقيقة. والمرادُ تشبيه المُتَمَسكِ بشرائط الإيمان بالمتمسكِ بالعُروةِ الوثيقة من عُرى الحبْلِ لأنه يستعصِمُ بها من المزالِّ المُزْلِقة، والمهابِط الموبِقة. ثم قال تعالى:" لا انفصامَ لها "، تبعيداً لها من شِبْهِ العُرَى المعهودةِ التي ربما انفصمَتْ على طولِ الجَذْبِ أو بَلِيَتْ قواها على مرِّ الدّهر.
٥ - وأما الصَنعةُ والمَصنوع، فإن الصّنعةَ هي عبارةٌ عن الحوادِثِ في المصنوعات مثل الإصلاح والإفسادِ، والطول والقِصَر، والضخامةِ والنحافة، والخُضرةِ والحُمرةِ، والحركةِ والسكون، والأشياء التي يسمّيها المتكلمون الأعراضَ. وأما المصنوعات فهي الأشياء التي تتعاقبُ عليها هذه الأعراض. فالصّنعةُ والمصنوعات محْدَثَتان. فمن المصنوعات الحيوانُ الذي يصنعه اللهُ تعالي، وصُورٌ في الجَمادات نفعلُها نحن فالإشارات التي في الصور من حِذْقِ المصوِّرين في أفعالِهم فيها يُخيَّلُ إليكَ أن بعضها ناطقٌ وإن كان لا ينطِقُ، ومنها ما يخيَّل إليك أنّه متحرِّك وهو ساكن. فأنت تُسمي الجسمَ مصنوعاً على حقيقة اللّغة، وتُسميه صَنعةً على الاتساع والمجاز، ألا ترى أنك تقولُ هذا جسمٌ مصنوعٌ حسَنُ الصّنعةِ، أو قبيح الصنعَةِ وكاملُ الصنعةِ أو ناقصُ الصنعَةِ، وإن كان أصل اللفظتين فيهما واحداً. وإنما قدّمتُ ذلك توطئةً لتعلمَ أن الصنعةَ في الشعر عبارةٌ عن النظم الذي خلّصه من النثر، وجمع أشْتاتَه بعدَ التبدُّدِ والصّدْع. وأن المصنوعَ هو الشعر الذي عنصرُهُ الكلامُ المنثور. والمصنوع لا يُسمّى مصنوعاً حتى يخرُجَ من العدم الى الوجود. فإذا كان موجوداً سُمّي مصنوعاً لمُشاهَدَتِه والعلم بهِ، ثم يعْتَورُهُ بعد ذلك النقد فيقالُ فيه كاملٌ وناقصٌ، وحسنٌ وقبيح، وسقيمٌ وصحيح، وجيدٌ ورديء.
ورأيت قوماً من المُصنّفين قد خلطوا الصنعةَ بالنقدِ والنقد بالصنعة ولم يفرقوا بين المصنوع والصنعة وهذا غلطٌ وشطَط. ألا ترى أنه لا يجوز أن تقولَ في شعرٍ لم تسمعْه ولم يتصلْ بك، جيدٌ ورديء، حتى تقفَ عليه وتكرر النظرَ إليه؟. فقد عرفتَ بهذه الإشارة اللطيفة، والعبارة الخفيفة، ما الفرقُ بين المصنوع والصَنعةِ وبين الصنعةِ والنقد، واللهُ الموفق.
٦ - وأما إقامةُ الوزن فهوَ عبارةٌ عن ذوْقٍ طبيعي حفِظَ فصولَه من الزيادةِ والنُقصان وعدّلها تعديلَ القِسْطِ بالميزان. ولو أن كلّ ناظمٍ للشعر يفتقرُ في إقامة وزنهِ، وتصحيحِ كسْرِه، وتعديلِ فصولِه الى معرفةِ العَروض، والقوافي، لما نظَمَ الشِعرَ إلا قليلٌ من الناس. على أن الشاعر إذا عرَفَهما لم يستغن عنهما.