ابْنُ عَرَفَةَ اسْتَشْكَلَ عِزُّ الدِّينِ مَعْرِفَتَهُ وَأَبْطَلَ كَوْنَهُ التَّلْبِيَةَ بِعَدَمِ رُكْنِيَّتِهَا وَكَوْنِهِ النِّيَّةَ بِأَنَّهَا شَرْطُ الْحَجِّ وَعَرَّفَهُ تَقِيُّ الدِّينِ بِأَنَّهُ الدُّخُولُ فِي أَحَدِ النُّسُكَيْنِ، وَالتَّشَاغُلُ بِأَفْعَالِهِمَا وَرَدَّهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِأَنَّ مَا يَدْخُلُ بِهِ النِّيَّةُ وَالتَّلْبِيَةُ وَالتَّوَجُّهُ لِغَيْرِ الْمَكِّيِّ، وَالْأَوَّلَانِ لَهُ، وَالْوَاجِبُ مِنْهُمَا النِّيَّةُ فَقَطْ، وَغَيْرُ الْوَاجِبِ لَا يَكُونُ رُكْنَ الْوَاجِبِ، وَيُرَدُّ بِوُجُوبِ التَّوَجُّهِ مُطْلَقًا لِتَوَقُّفِ سَائِرِ الْأَرْكَانِ عَلَيْهِ انْتَهَى.
وَقَوْلُهُ: مُطْلَقًا أَيْ لِلْمَكِّيِّ وَغَيْرِهِ ثُمَّ قَالَ الصَّقَلِّيّ وَالْقَاضِي هُوَ اعْتِقَادُ الدُّخُولِ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ (قُلْتُ:) إنْ أَرَادَ تَقِيُّ الدِّينِ حَقِيقَةَ الدُّخُولِ لَزِمَ كَوْنُهُ بَعْدَهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ، وَإِنْ أَرَادَ مُطْلَقَ فِعْلِهِمَا لَزِمَ نَفْيُهُ فِي الْإِحْصَارِ وَالنَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ، وَيَبْطُلُ الثَّانِي بِنَفْيِهِ فِي الْآخَرَيْنِ وَالْغَافِلِ عَنْ اعْتِقَادِهِ، وَهُمْ مُحْرِمُونَ اتِّفَاقًا أَوْ إجْمَاعًا، وَلَا يُرَدُّ بِأَنَّ الدُّخُولَ فِي حَجٍّ مُضَافٌ إلَيْهِ فَتَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى الْحَجِّ، وَالْإِحْرَامُ جُزْؤُهُ فَتَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُهُ عَلَيْهِ فَيَدُورُ لِمَنْعِ الثَّانِيَةِ لِجَوَازِ مَعْرِفَتِهِ بِغَيْرِ الْحَدِّ التَّامِّ انْتَهَى.
وَقَوْلُهُ: إنْ أَرَادَ حَقِيقَةَ الدُّخُولِ لَمْ يَذْكُرْ قَسِيمَهُ، وَتَقْدِيرُهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - وَإِنْ لَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ الدُّخُولِ بَلْ تَجَوَّزَ وَأَطْلَقَ الدُّخُولَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَا يَدْخُلُ فِيهِ، وَعَلَى مَا بَعْدَ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْحُدُودِ الْمَجَازُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: وَإِنْ أَرَادَ مُطْلَقَ فِعْلِهِمَا هُوَ إيرَادٌ ثَانٍ عَلَى قَوْلِهِ: وَالتَّشَاغُلُ بِأَفْعَالِهِمَا، وَلَمْ يَذْكُرْ قَسِيمَهُ أَيْضًا، وَتَقْدِيرُهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - وَإِنْ أَرَادَ فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ بِخُصُوصِهِ فَلَمْ يُبَيِّنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: وَيَبْطُلُ الثَّانِي أَيْ: التَّعْرِيفُ الثَّانِي الَّذِي عَزَاهُ لِلصَّقَلِّيِّ وَالْقَاضِي.
ثُمَّ قَالَ: وَكَلَامُهُمْ غَلَطٌ، وَسَبَبُهُ عَدَمُ الشُّعُورِ بِمَيْزِ الْإِحْرَامِ عَمَّا بِهِ يَقَعُ الْإِحْرَامُ، فَالْإِحْرَامُ صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ لِمَوْصُوفِهَا حُرْمَةَ مُقَدِّمَاتِ الْوَطْءِ وَإِلْقَاءِ الشَّعْثِ وَالطِّيبِ وَلُبْسِ الذُّكُورِ الْمَخِيطَ وَالصَّيْدِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلَا تُبْطِلُ بِمَا يَمْنَعُهُ قَالَ: وَعَدَمُ نَقْضِهِ بِإِحْرَامِ الصَّلَاةِ وَحُرْمَةِ الِاعْتِكَافِ وَاضِحٌ انْتَهَى.
(قُلْتُ:) الظَّاهِرُ: أَنَّهُ غَيْرُ جَامِعٍ لِخُرُوجِ مَنْ حَصَلَ مِنْهُ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ فَقَطْ مَعَ أَنَّهُ مُحْرِمٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الطِّرَازِ فِي آخِرِ بَابِ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَصَاحِبُ الْمُعَلِّمِ وَغَيْرُهُمَا وَنَصُّ كَلَامِ صَاحِبِ الْمُعَلِّمِ لَمَّا ذَكَرَ مَنْ حَصَلَ مِنْهُ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ وَأَنَّ الصَّيْدَ حَرَامٌ عَلَيْهِ عِنْدَنَا قَالَ وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: ٩٦] ، وَهَذَا يُسَمَّى مُحْرِمًا حَتَّى يُفِيضَ؛ لِأَنَّ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ أَحَدُ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَفَرَائِضِهِ فَلَا يَذْهَبُ عَنْهُ تَسْمِيَةُ الْمُحْرِمِ حَتَّى يَفْعَلَهُ انْتَهَى.
. وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْوَطْءِ وَمُقَدِّمَاتِهِ وَالصَّيْدِ، وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: يُوجِبُ حُرْمَةَ مُقَدِّمَاتِ الْوَطْءِ وَالصَّيْدِ لَدَخَلَ ذَلِكَ، وَلَا يَرُدُّ إحْرَامَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الصَّيْدَ، وَلَا يَرُدُّ مَنْعَ مَنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْوَطْءِ وَالصَّيْدِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ فِيهِ لَيْسَ صِفَةً حُكْمِيَّةً فَلَيْسَ دَاخِلًا فِي الْمَحْدُودِ، وَلَا يُقَالُ: حَدُّهُ غَيْرُ مَانِعٍ لِدُخُولِ مَنْ حَلَفَ يَمِينًا بِتَرْكِ مُقَدِّمَاتِ الْوَطْءِ مَا ذَكَرَهُ مَعَهَا فِيهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَيْسَتْ الْيَمِينُ تَمْنَعُ مِنْ فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَتَقْضِي تَحْرِيمَ الْحَلَالِ إنَّمَا تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ بِالْفِعْلِ فَقَطْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ وَشَيْخِهِ ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَذَكَرَ عَنْ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ أَنَّ الشَّيْخَ عِزَّ الدِّينِ كَانَ يُحْرِمُ عَلَى تَعْيِينِ فِعْلٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ النِّيَّةُ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَفْظُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فِي الْإِيرَادِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَرَفَةَ لَوْ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ الدُّخُولُ لَقِيلَ: لَهُ الدُّخُولُ حَقِيقَةٌ مُرَكَّبَةٌ فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ أَجْزَاؤُهَا وَاجِبَةً؛ لِأَنَّ جُزْءَ الْوَاجِبِ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ بِوَاجِبٍ إلَّا النِّيَّةُ فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْإِحْرَامَ؛ لِأَنَّ مَا قَارَنَهَا مِنْ تَلْبِيَةٍ وَسَيْرٍ لَيْسَا بِرُكْنَيْنِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ اعْتِرَاضِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ لَكِنْ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّا نَمْنَعُ أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ، فَإِنْ قَالَ: حَقِيقَةُ الشَّرْطِ مُنْطَبِقَةٌ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ، وَكَذَلِكَ النِّيَّةُ.
(قُلْنَا:) لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ حَقِيقَةُ الشَّرْطِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةٍ، وَلَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي الْمَاهِيَّةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ هَذَا اللَّفْظِ، وَإِلَّا فَرُكْنُ الْمَاهِيَّةِ وَجُزْءُ عِلَّتِهَا يُشَارِكَانِ الشَّرْطَ فِيمَا ذَكَرْتُ فَلَا يَكُونُ حَدُّ