فيهما النَّصب على تقدير: أعني نفسًا في الشِّتاء ونفسًا في الصَّيف.
قوله:(أَشَدِّ مَا تَجِدُونَ) بجرِّ (أشدِّ) على أنَّه بدل من نفس أو بيان، ويروى بالرَّفع على أنَّه خبر مبتدأ محذوف، أي هو (أَشَدُّ مَا تَجِدُوْنَ)، قال شيخنا: هو في روايتنا بالرَّفع، قال البَيْضَاوي: هو خبر مبتدأ محذوف تقديره: فذلك أشدُّ. وقال الطِّيبيُّ: جَعْلُ أشدُّ مبتدأ محذوف الخبر أولى والتقدير: أشدُّ ما تجدون من الحرِّ من ذلك النَّفس، ويؤيِّد رواية (١) الوجه الأوَّل رواية الإسماعيلي من هذا الوجه بلفظ: ((فَهُوَ أَشَدُّ))، ويؤيِّد الوجه الثَّاني رواية النَّسائي من وجه آخر بلفظ:((فأشدُّ ما تجدُون مِنَ الحَرِّ مِنْ حَرِّ جهنَّم)) وفي اللَّفظ الذي رواه البخاري لفٌ ونشرٌ على غير الترتيب، قلت: لأنَّه لو كان على الترتيب لقال: فأشدُّ ما تجدون من الزمهرير، وأشدُّ ما تجدون من الحرِّ. انتهى. قال شيخنا وهو مرتب في رواية النَّسائي. انتهى.
قال العَيني: ولا مانع من حصول الزمهرير من نفس النَّار؛ لأنَّ المراد من النَّار محلُّها وهو جهنَّم وفيها طبقة زمهريريَّة. انتهى. قلت: يدلُّ على ذلك حديث مرفوع رواه عُثْمان الدَّارمي وغيره: ((إذا كان يوم شديد الحرِّ فقال العبد: لا إله إلَّا الله ما أشدَّ حرَّ هذا اليوم! اللَّهمَّ أجرني من حرِّ جهنَّم، قال الله تعالى لجهنَّم: إنَّ عبدًا من عبادي قد استجار بي منك وقد أجرته، وإذا كان يوم شديد البرد فقال العبد: لا إله إلَّا الله ما أشدَّ برد هذا اليوم! اللَّهمَّ أجرني من زمهرير جهنَّم، قال الله تعالى لجهنَّم: إنَّ عبدًا من عبادي قد استجار بي من زمهريرك، وإنِّي أشهدك أني قد أجرته، قالوا: ما زمهرير جهنَّم؟ قال: بيت يلقى فيه الكافر فيتمزَّق من شدَّة برده)). انتهى.
ويقال: لا منافاة في الجمع بين الحرِّ والبرد في النَّار؛ لأنَّ النَّار عبارة عن جهنَّم، وقد ورد: أنَّ في بعض زواياها نارًا وفي أخرى الزمهرير، وليس محلًّا واحدًا يستحيل أن يجتمعا فيه. قال العَيني: الذي خلق الملك من ثلج ونار قادر على جمع الضدَّين في محلٍّ واحد، وأيضًا فالنَّار من أمور الآخرة، والآخرة لا تقاس على أمر الدنيا. انتهى.
قلت: قد أرانا الله تعالى في الدُّنْيا من جمع النَّار والماء أنواعًا، منها الصَّواعق الَّتي تنزل مع المطر الشديد، وقد أحرقت هذه النَّار أماكن كثيرة مع نزولها مع الماء، وأيضًا ترى النَّار في الماء الحارِّ - أعني المالح - على هيئة السُّرُج على وجه الماء، وأيضًا إذا أخذ الماء من البحر المالح ونُثر تراه يطير شرارًا، وقد نبه الله تعالى على هذه القدرة بقوله:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا}[يس: ٨٠]. انتهى.
وفي «التَّوضيح» قال ابن عبَّاس: خلق الله النَّار على أربعة، فنار تأكل وتشرب، ونار لا تأكل ولا تشرب، ونار تشرب ولا تأكل، وعكسه، فالأولى منها الملائكة، والثانية الَّتي في الحجارة، وقيل: الَّتي رجعت لموسى ليلة المناجاة، والثالثة الَّتي في البحر، وقيل: الَّتي خُلقت منها الشَّمس، والرابعة نار الدُّنيا، ونار جهنَّم تأكل لحومهم وعظامهم ولا تشرب دموعهم ولا دماءهم، بل يسيل ذلك إلى عين الخبال، وأخبر الشارع: أنَّ عصارة أهل النَّار شراب من مات مُصرًّا على شرب الخمر، والذي في الصحيح: أنَّ نار الدُّنْيا خلقت من نار جهنَّم، وقال: قال ابن عبَّاس: ضربت بالماء سبعين مرَّة، ولولا ذلك ما انتفع بها الخلائق. وإنَّما خلقها الله تعالى؛ لأنَّها