للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

لا يحتاج إلى تأويله، فحمله على حقيقته أولى. وقال النَّوَوي نحو ذلك ثمَّ قال: حمله على حقيقته هو الصواب. وقال نحو ذلك الشيخ التُّورِبِشتي، وقال ابن المنيِّر: حمله على الحقيقة هو المجاز؛ لصلاحيَّة القدرة لذلك، ولأنَّ استعارة الكلام للحال وإن عهدت وسمعت لكن الشَّكوى وتفسيرها والتَّعليل والإذن والقبول والتَّنفُّس وقصره على اثنين فقط بعيد من المجاز خارج عما أُلِفَ من استعماله، وقال العَيني: قدرة الله أعظم من ذلك؛ لأنَّه يخلق فيها آلة الكلام كما خلق لهُدهُد سُلَيمان ما خلق من العلم والإدراك كما أخبر الله تعالى عن ذلك في كتابه الكريم، وحكى عن النَّار حيث تقول: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: ٣٠]، وورد: أنَّ الجنَّة إذا سألها عبد أمَّنت على دعائه، وكذا النَّار. انتهى.

قلت: ويمكن أن يكون نطقها من غير خلق آلة للنطق، وقد اختلفوا في كيفيَّة نطق الحصى الَّتي سبَّحت في يده عليه السَّلام، وكذلك في نطق ذراع الشَّاة الَّتي سمَّتها اليهوديَّة، قال القاضي عياض: واختلف أئمَّة أهل النظر في هذا الباب، فمن قائل يقول: هو كلام يخلقه الله في الشَّاة الميتة أو الحجر أو الشجرة، وحروف وأصوات يُحْدِثُها الله تعالى فيها ويسمعها منها دون تعبير أشكالها ونقلها عن هيئتها، وهو مذهب الشيخ أبي الحسن والقاضي أبي بكر رحمهما الله تعالى وآخرون ذهبوا إلى إيجاد الحياة بها أولًا ثمَّ الكلام بعده، وحكي هذا أيضًا عن شيخنا أبي الحسن، وكلٌّ محتمل، والله أعلم، إذا لم يجعل الحياة شرطًا لوجود الحروف والأصوات؛ إذ لا يتخيَّل وجودها مع عدم الحياة بمجرَّدها، فأمَّا إذا كانت عبارة عن الكلام النَّفسي فلا بدَّ من شرط الحياة لها؛ إذ لا يوجد كلام النَّفس إلَّا من حيٍّ خلافًا للجَبَّائي من بين سائر متكلِّمي الفرق في إحالة وجود الكلام اللَّفظي والحروف والأصوات إلَّا من حيٍّ مركب تركيب من يصحُّ منه النطق بالحروف والأصوات، والتزم ذلك الحصا والجذع والذِّراع وقال: إنَّ الله خلق فيها حياة وخرق لها فمًا ولسانًا وآلة وأمكنها بها من الكلام، وهذا لو كان لكان نقله، والتهمُّم به آكد من التهمُّم بفعل تسبيحه أو حنينه، ولم ينقل أحد من أهل السير والرواية شيئًا من ذلك، فدلَّ على سقوط دعواه مع إنَّه لا ضرورة إليه في النظر، والله الموفق. انتهى.

وقال الدَّاوُدي: وكلام النَّار يدلُّ على إنَّها تفهم وتعقل، وقد جاء: إنَّه ليس شيء أسمع من الجنَّة والنَّار، وقد ورد: أنَّ النَّار تخاطب سيَّدنا رسول الله صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم، وتخاطب المؤمن بقولها: جُز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي، ورجَّح البَيْضَاوي حمله على المجاز فقال: شكواها مجاز عن غليانها، وأكلها بعضها بعضًا مجاز عن ازدحام أجزائها، وتنفُّسها مجاز عن خروج ما يبرز منها، قال عنترة:

وشكى إليَّ بعبرةٍ وتحمحُم

وقال آخر:

يشكي إليَّ جملي طول السُّرى... مهلًا [جميلًا] (١) فكلانا مبتلى

قوله: (بِنَفَسَينِ) تثنية نفس -بفتح الفاء- وهو ما يخرج من الجوف ويدخل فيه من الهواء.

قوله: (نَفَسٍ) في الموضعين بالجرِّ على البدل أو البيان، ويجوز فيهما الرَّفع على أنَّه خبر مبتدأ محذوف والتقدير: أحدهما نفس في الشِّتاء والآخر نفس في الصَّيف، ويجوز


(١) جميلاً: ليس في الأصل.

<<  <   >  >>