ثم غسلنا أيدينا وتحدثنا ساعة ثم إنه قام ودخل الخباء وقطع بيني وبينه بمقطع من الديباج الأحمر، ثم خرج وقال: ادخل يا وجه العرب وخذ مضجعك فقد لحقك في هذه الليلة تعب وفي سفرك هذا نصب مفرط.
قال جميل: فدخلت فإذا أنا بفراش من الديباج الأخضر، فعند ذلك نزعت ما كان علي من الثياب ونمت بليلة لم أنم عمري مثلها، فلم أزل كذلك، وأنا متفكر في أمر هذا الشاب إلى أن جن الليل ونامت العيون، فلم شعر إلا بحس خفي لم أسمع ألطف منه ولا أرق حاشية، فرفعت سجاف المضرب، ونظرت فإذا أنا بصبية لم أر أحسن منها وجهاً وهي إلى جانبه، وهما يبكيان ويتشاكيان ألم الهوى والصبابة والجوى وشدة اشتياقهما إلى التلاقي، فقلت: يا الله؛ العجب من هذا الشخص الثاني، وهذا بيت فرد فإني لم أر فيه غير هذا الفتى، وليس حوله أحد، ثم قلت في نفسي: لا شك أن هذه الجارية من بنات الجن تهوى هذا الغلام، وقد تفرد بها في هذا المكان وتفردت به، فحققتها فإذا هي أنسية عربية إذا رمقت تخجل الشمس المضيئة، وقد أضاء الخباء من نور وجهها، فلما تحققت أنها محبوبته غلبتني الغيرة على الحب، فأرخيت الستر وغطيت وجهي ونمت، فلما أصبحت لبست ثيابي، وتوضأت لصلاتي، وصليت ما كان علي من الفرض، ثم قلت له: يا أخا العرب، هل لك أن ترشدني إلى الطريق، فقد تفضلت علي.
فنظر إلي وقال: على رسلك يا وجه العرب، الضيافة ثلاثة أيام وما كنت بالذي يدعك إلى لثلاثة أيام.
قال جميل: فأقمت عنده ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع جلسنا للحديث فحادثته وسألته عن اسمه ونسبه فقال: أما نسبي فأنا من بني عذرة، وأنا فلان بن فلان وعمي فلان، فإذا هو ابن عمي، يا أمير المؤمنين، وهو من أشرف بيت في بني عذرة، قال: فقلت: يا ابن العم، ما حملك على ما أراه منك من الانفراد في هذه البرية، وكيف تركت عبيدك وإماءك وانفردت بنفسك في هذا المكان؟ فلما سمع يا أمير المؤمنين كلامي، ترغرغت عيناه بالدمع ثم قال: يا بن العم إنني كنت محباً لابنة عمي، مفتوناً بها هائماً بحبها مجنوناً عليها لا أطيق الفراق عنها، فزاد عشقي لها، فخطبتها من عمي، فأبى أن يزوجنيها وزوجها من رجل من بني عذرة ودخل بها وأخذها إلى المحلة التي هو فيها من العام الأول، فلما بعدت عني وحجبت عن النظر إليها حملتني لوعات الهوى وشدة الشوق والجوى على تركي أهلي ومفارقتي عشيرتي وخلاني وجميع أمتعتي، وانفردت بهذا البيت في هذه البرية وألفت وحدتي.