كان يسمى السفاح الثاني لأنه جدد ملك بني العباس بعد أن أخلقته الأتراك وأذلته، وفي ذلك يقول علي بن العباس الرومي:
كما بأبي العباس أنشيء ملككم ... كذا بأبي العباس أيضاً يجدد
ولقد اتفق في أيامه، على ما حكي، أمر فظيع كشفه الله له بهيبته في نفوس الناس، فإنه كان لا يتجرأ أحد منهم أن يكتم ما في نفسه مخافة صولته لأنه كان لشدة حذقه، يتخيل لهم أنه يعلم ما في نفس الإنسان من الضمير. فاتفق أن أحد وزرائه وأكبر قواده بني بناء عالياً مشرفاً على منازل جيرانه، فلم يعارضه أحد فيه من جيرانه لمكانته من سلطانه وعزه، وكان يجلس كثيراً في ذلك البناء، فرأى يوماً من الأيام في دار من دور جيرانه جارية بارعة الجمال، فولع بها، فسأل عنها، فأخبر أنها بنت أحد التجار، فأرسل إلى والدها خاطباً، فقال له أبوها، وكان من أهل اليسار: لست أزوجها إلا من تاجر مثلي، فإنه إن تزوجها من هو مثلي لم يظلمها، وإن ظلمها قدرت على النصفة منه، وأنت إن ظلمتها لم أقدر لها على النصفة منك، ولا على الحيلة لنصرتها.
فلم يزل يرومه في ذلك بكل أمر وتوسط إليه بالأكابر والأماثل من الناس، وهو مع ذلك يمتنع، فلما يئس منه أن يجيبه، شكا إلى أحد خواصه فقال له: ألف مثقال يقوم لك هذا.
فقال: كيف ذلك؟ والله لو علمت أني أنفق عليها مائتي ألف مثقال أو أكثر وتأتيني بها لفعلت.
قال له: عليك أن تحضر لي ألف دينار.
فأمر بإحضارها فمشى بها ذلك الرجل إلى عشرة رجال كانوا عدولاً عند القاضي في شهادتهم، وذكر لهم الأمر، وقال: هذا أمر ليس عليكم من الله فيه تبعة، فإنه يصدقها كذا وكذا ألفاً، وأغلى لهم المهر، وإنكم تحيون نفساً أشرفت على الهلاك، ويكون لكم عنده مع هذا من الجاه ما ترغبون، وأبوها إنما هو عاضل لها عن الزواج، وإلا فما يمنعه من ذلك، وقد خطبها مثل فلان في جلالة قدره ومكانة أمره، وقد أعطاه صداقاً لا يعطى إلا لبنت ملك ثم هو مع هذا يأبى، هل هذا إلا عضل بين؟ ولكن لكم ألف مثقال لك واحد منكم مائة وتشهدون أنه قد زوجها به فإنه إذا علم أبوها بأنكم قد شهدتم عليه رجع إلى هذا إذ ليس فيه إلا الخير والخيرة.
فأخذ الشهود كل واحد منهم مائة وشهدوا أن أباها زوجها على صداق مبلغه كذا، ورفعوا في الصداق إلى غاية ما ترفع إليه صداقات الملوك، فلما علم أبوها بذلك زاد