تلك النار، فقربت نفسي منها وتأملت وإذا بخباء مضروب ورمح مركوز، وراية قائمة وخيل واقفة، وإبل سائمة، فقلت في نفسي: يوشك أن يكون لهذا الخباء شأن عظيم، فإني لا أرى في هذه البرية سواه، ثم تقدمت خلف الخباء وقلت: السلام عليكم يا أهل الخباء ورحمة الله وبركاته.
فخرج إلي من الخباء غلام من أبناء تسعة عشر، كأنه البدر إذا أشرق، والشجاعة لائحة بين عينيه، فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته يا أخا العرب، إني أظنك ضالاً عن الطريق؟ فقلت: الأمر كذلك، أرشدني يرحمك الله تعالى.
فقال: يا أخا العرب إن أرضنا هذه مسبعةٌ، وهذه الليلة مظلمة وحشة شديدة الظلمة والبرد ولا آمن عليك من الوحش أن يفترسك، فانزل عندي على الرحب والسعة، فإذا كان الغد أرشدتك إلى الطريق.
قال: فنزلت عن ناقتي وعقلتها بفاضل زمامها ونزعت ما كان علي من أطمار، وجلست ساعة، وإذا بالشاب قد عمد إلى شاة فذبحها وإلى نار فأضرمها وأججها ثم دخل الخباء وأخرج أزاراً ناعمة ولحماً مطيباً وأقبل يقطع من اللحم ويشوي على النار ويطعمني ويتنهد تارة، ويبكي تارة أخرى، ثم شهق شهقة عظيمة وبكى بكاء شديداً وأنشد يقول:
لم يبق إلا نفس خافت ... ومقلة إنسانها باهت
لم يبق في أعضائه مفصل ... إلا وفيه سقم ثابت
فدمعه جار وأحشاؤه ... توقد، إلا أنه ساكت
تبكي له أعداؤه رحمةً ... يا ويح من يرثي له الشامت
قال جميل: فعند ذلك يا أمير المؤمنين علمت أن الغلام عاشق ولهان، ولا يعرف الهوى إلا من ذاق طعم الهوى، فقلت في نفس: أنا في منزل الرجل وأتهجم عليه في السؤال؟ فردعت نفسي وأكلت من ذلك اللحم بحسب الكفاية، فلما فرغت من الأكل قام الشاب ودخل الخباء وأخرج طشتاً نظيفاً وإبريقاً حسناً ومنديلاً من الحرير أطرافه مزركشة بالذهب الأحمر وقمقماً مملوءاً من الماورد الممسك. فتعجبت من ظرفه ورقة حاشيته، وقلت في نفسي: ما أغرب الظرف في البادية.