[مذهب السلف في باب الأسماء والصفات]
قال رحمه الله: [وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل].
هذه قاعدة أخرى تتفرع عن الأولى، وستأتي قواعد كثيرة كلها تتفرع عن القاعدة الأولى، وهذه القاعدة الفرعية تتمثل في أن طريقة السلف الذين سبيلهم سبيل المؤمنين، والذين اقتفوا أثر الأنبياء، والذين هم أهل الحق، والذين عصم الله بهم الدين، وتحقق فيهم إجماع الأمة على الحق، هؤلاء السلف طريقتهم وطريق أئمتهم: إثبات ما أثبته الله عز وجل لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الإثبات لابد فيه من احتراز، وهذا الاحتراز هو: أنه حينما نثبت لا نكيف ولا نمثل، فلا نكيف الغيبيات بما فيها أسماء الله وصفاته وأفعاله، ولا نقرر الكيفية لا في عقولنا ولا بألسنتنا ولا باعتقاداتنا؛ لأن الكيفية هي الحقيقة المحسوسة التي تتمثل في الغيبيات والمحسوسات، وإحساس الغيبيات غير ممكن.
والتكييف هو: وصف الصفة وصفاً تفصيلياً كما توصف المخلوقات المعاينة والمشاهدة، وعليه فلا يجوز أن نصف أسماء الله وصفاته وصفاً كيفياً، بمعنى: أن نحدد الشكل واللون والحكم والثقل ونحو ذلك مما هو من لوازم التكييف.
إذاً: المقصود التكييف في أسماء الله وصفاته وأفعاله: الكلام في الشكل والهيئة التي عليها الحقيقة المعاينة، ونحن لا نعاين الحقائق الغيبية بحواسنا وإنما بقلوبنا، وعلى هذا فلا يجوز التكييف في أسماء الله وصفاته وأفعاله.
وأما التمثيل فهو جزء من التكييف ومتفرع عنه، والمقصود به: أنه لا يجوز لنا أن نعتقد أن الله أو بعض صفات الله أو بعض أسمائه مثل شيء من مخلوقاته، وكذلك العكس، فلا نمثل أسماء الله وصفاته وأفعاله بأمثلة من المخلوقات، ولا نشبهها بالمخلوقات تشبيهاً كيفياً، والعكس كذلك، فلا نمثل صفات المخلوقات بصفات الله، ولا نجعل صفات الله كصفات المخلوقين، فإن هذا تمثيل، وهو كفر، ولا نجعل صفات المخلوقين كصفات الله، فإن هذا أيضاً تمثيل، وهو كفر.
إذاً: فالتمثيل ممنوع من طرفين: تمثيل خصائص الله بالمخلوقات، وتمثيل خصائص المخلوقات بصفات الله، وهذا كله لا يجوز، والسلف طريقتهم حينما يثبتون ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات والأفعال أنهم ينفون التكييف والتمثيل، بخلاف ما يزعمه خصوم السلف من الجهلة وأهل الأهواء والبدع والافتراق بأن السلف يكيفون ويمثلون، ولذلك سموهم: مجسمة ومشبهة؛ لأنهم أثبتوا -أي: السلف- صفات الله، وعند أولئك القوم -أفراخ الفلاسفة- من أثبت أسماء الله وصفاته، أو شيئاً منها فهو ممثل مجسم، وهذا من الزيغ والعياذ بالله.
وكذلك أيضاً نثبت الأسماء والصفات من غير تحريف ولا تعطيل، فلا نؤولها ولا ننكرها ولا نشير إلى أنها رموز، أو أنها خيالات، أو أنها أمثال تضرب لا حقيقة لها، وكل ذلك مسالك الفلاسفة والمتكلمين وأفراخهم ممن تأثروا بهم، أو حكموا عقولهم، أو سلكوا مسالك الأمم الضالة، بينما قاعدة السلف تنبني على الإثبات من غير تحريف، والتحريف هو التأويل، ومن غير تعطيل، والتعطيل هو الإنكار، والتحريف قد سلكته طوائف من الفرق، والتعطيل هو منهج الجهمية والفلاسفة، فينفون الأسماء والصفات لله عز وجل، ويصفونه بالسلوب فيقولون: لا كذا ولا كذا، مما سيأتي بيانه، وهم في الحقيقة لا يثبتون شيئاً، وحينما ترد الأسماء والصفات في الكتاب والسنة فإنهم يقفون منها مواقف، فبعضهم ينكرها ويسخر من الكتاب والسنة، وبعضهم قد لا يجرؤ على إنكار الكتاب والسنة، لكن يصرفونها عن الإثبات فيقولون: هذه معان خيالية! أو هذه مثاليات! أو هذه أمثال تقرب وليست حقائق! أو هذه تنبني على التخييل ومحاولة ربط الناس بمعاني لا حقيقة ولا ثبوت لها! إلى آخر ما يقولونه، وهذا الصنف الأول.
وأما الصنف الثاني: فهم أهل الكلام، وهؤلاء قد سلكوا مسلك التحريف الذي هو التأويل، أي: أنهم قد عمدوا إلى أسماء الله وصفاته، أو إلى بعضها فأخرجوها من حقيقتها إلى معان تخيلوها في عقولهم، مع أن هذه المعاني قد اختلفوا عليها كثيراً كما سيأتي بيانه، بل لا يكادون يتفقون على معنى.
بينما السلف قد قام دينهم على الكتاب والسنة، وقامت طريقتهم على الكتاب والسنة، وهو الإثبات لله عز وجل من غير تمثيل وتشبيه، وإن كانت كلمة: (التشبيه) فيها تفصيل، وكذلك الإثبات من غير تحريف ولا تعطيل، أي: من غير إنكار ولا تأويل؛ لأن التعطيل إلحاد، والتحريف قول على الله بغير علم، وقول في الغيبيات، وتحكم فيما لا علم للإنسان به، وخروج عن مقتضى الحقيقة إلى أوهام وظنون وتخرصات كما سيأتي بيانه.