للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال ابن عبد البر (١): "فيه دليل على أن طول التغريب عن الأهل والوطن لغير حاجة من دين أو دنيا لا يصلح ولا يجوز، وأن من انقضت حاجته لزمه الاستعجال لأهله".

ذكر السمعاني في "تاريخه"، قال: لما قدم الأستاذ أبو القاسم القشيري بغداد، وعقد له مجلس الوعظ. فروى في أول مجلسه الحديث المشهور: " السفر قطعة من العذاب"، فقام إليه سائل، وقال: لم سمى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السفر قطعة من العذاب؟ فقال: لأنه من فرقة الأحباب. فاضطرب الناس وتواجدوا، وما أمكنه أن يتم المجلس فنزل.

(٢) أنه يورث ضيق الأخلاق:

وقالوا: "لا تعرف صاحبك حتى تعصيه أو تسافر معه". وقالوا: "الحريص والمسافر مريضان لا يعادان". وقال بعضهم يمدح: أفلح بسام وإن طال السفر.

أورد الزركشي رحمه الله في الغرر السافر فيما يحتاج إليه المسافر عن علي - رضي الله عنه - قال: "السفر ميزان القوم".

وقيل: "عسرك في بلدك خير من يسرك في غربتك ". وقيل لأعرابي: "ما الغبطة؟ (قال): الكفاية مع لزوم الأوطان والجلوس مع الإخوان. قيل: ما الذلة؟، قال: التنقل في البلدان، والتنحي عن الأوطان".

وحكي ابن عبد البر: أن الإمام الشافعي خرج في بعض أسفاره فضمه الليل إلى مسجد فبات فيه، وغذا في المسجد قوم يتحدثون، يضربون المنا، وهجر المنطق، فتمثل:

وأنزلني طول النوى دار غربة ... إذا شئت لاقيت امرؤا لا أشاكله (٢)

وأنشدوا:

وكل غريب سوف يمشي بذلة ... إذا بات عن أوطانه وجفا الأهلا

وأنشدوا:

وإن اغتراب المرء من غير حاجة ... ولا فاقة يسموا لها لعجيبُ

وحسب الفتى ذلا، وإن أدرك الغنى ... (ولو) نال ملكًا، أن يقال غريبُ

ولله درُّ الشافعي حيث يقول:

إن الغريب له مخافة سارق ... وخضوع مديون وذلة موثق

فإذا تذكر أهله وبلاده ... ففؤاده كجناح طير خافق (٣)

وكان الحجاج يقول: "لولا فرح الإياب لما عذبت أعدائي إلا بالسفر".

وقيل: "الغربة ذلة فإن أعقبها قلة فهي نفس مضمحلة".

وقال إبقراط: (يداوي كل عليل بعقاقير أرضه فإن الطبيعة تنزع إلى غذائها وعادتها". وقال جالينوس: يستروح العليل إلى تربة أرضه كما تستروح الأرض الجدبة لوابل القطر.

ولله در بن الرؤبي حيث يقول:

وَحَبّبَ أوطان الرجال إليهم ... مآربُ قضاها الفؤاد هنالكا


(١) في التمهيد (٢٢/ ٣٦).
(٢) معجم الأدباء (٦/ ٢٤٠٨)، طبعة دار الغرب الإسلامي، ديوان الشافعي (١٠٧).
(٣) ديوانه (٦٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>