إنَّ الدارس المُدَقِّق والباحث المُحقق يعلم علم اليقين الذي لا يخالطه شك مدى حاجتنا العظيمة والماسَّة إلى تزكية النفس وتأسيسها على تقوى من الله ورضوان، وأن الحاجة إلى ذلك أصبحت ـ وهي دوما ـ أشد من الحاجة إلى الطعام والشراب والكساء. وذلك لعدة أسباب منها ما يلي:
أولاً: كثرة الفتن والمغريات وأصناف الشهوات والشبهات؛ فحاجة المسلم الآن إلى البناء أعظم من حالة أخيه أيام السلف، والجهد لابد أن يكون أكبر؛ لفساد الزمان والإخوان، وضعف المعين، وقلة الناصر.
ثانيًا: لكثرة حوادث النكوص على الأعقاب، والانتكاس، والارتكاس حتى بين بعض العاملين للإسلام، مما يحملنا على الخوف من أمثال تلك المصائر.
ثالثًا: لأن المسؤولية ذاتية، ولأن التبعة فردية والإنسان يُحَاسَبُ عن نفسه لا عن غيره فلابد من جواب واستعداد، قال تعالى: (يَوْمَ تَأْتِي كُلّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نّفْسِهَا) [النحل: ١١١]
رابعًا: عدم العلم بما نحن مقبلون عليه؛ أهو الابتلاء أم التمكين؟ وفي كلا الحاليْن نحن في أَمَسِّ الحاجة إلى بناء أنفسنا لتثبت في الحالين.
خامسًا: لأننا نريد أن نبني غيرنا، ومن عجز عن بناء نفسه فهو عن بناء غيره أعجز.
[تحصيل السعادة في تزكية النفوس:]
إن من أعظم فوائد التزكية وعواقبها على أصحابها أنها تهبهم سعادة الدنيا قبل سعادة الآخرة،
[*] (قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: من أحب تصفية الأحوال فليجتهد في تصفية الأعمال: قال تعالى: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً) [الجن:١٦]
وكان بعض الشيوخ يدور على المجالس يقول: من سره أن تدوم له العافية فليتق الله".
وصدق الله تعالى إذ يقول: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسّاهَا) [الشمس ٩،١٠] أهـ.
ثم إنك لن تصل إلى تحقيق المقامات الراقية إلا ببذل جهد، ومجاهدة لنفسك الأمارة بالسوء وحرصك على تزكيتها،
أما مجرد الأماني الجميلة، فلن توصلك إلا إلى الندامة ولو بعد حين .. !
(قل لنفسك موبخاً:
تريدينَ إحرازَ المعالي رخيصةً ** ولابدَ دون الشهدِ من إبرِ النحلِ!
(واهمس في أذنها أيضا:
بَصُرتُ بالراحة الكبرى فلم أرها ** تُنال إلا على جسرٍ من التعبِ.
بل خير من ذلك ذكّرها وأعد عليها التذكير بقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
" والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله. كما في الحديث الآتي: (