لما رأيت الناس هروا فتنةً ... عمياء توقد نارها وتسعر
إنما قدم ما اقتصه من ضعفه وكبرته، ليري العذر فيما يعجز عنه من النهوض في الفتنة التي ذكرها، فيقول: لما وجدت الناس قد كرهوا ما ترددوا فيه من فتنةٍ لا يهتدي لوجهها، ولا يقتدر على كشفها، تستعر نارها وتتلهب، ويبتعث شرها فشتمل. ويعني بهذا فتنة ابن الزبير وعبد الملك. وجواب لما منتظرٌ، وهو هنا محذوف يدل عليه الكلام، كأنه قال: انقبضنا عن النهوض فيها والحراك، لننظر ماذا تكون. والفتنة العمياء: التي لا يهتدي فيها لوجه أمرٍ، وفصلٍ شأن. والتعمية: التلبيس. ويقال: هو في عميانه، أي عماه، مصدرٌ كالطغيان.
وتشعبوا شعباً فكل جزيرةٍ ... فيها أمير المؤمنين ومنبر
شعبت يكون بمعنى جمعت وبمعنى فرقت. ويقال التأم شعبهم، إذا اجتمعوا بعد تفرقٍ؛ وتفرق شعبهم، إذا تبددوا بعد تجمع. والشعبة: الطائفة، وجمعها شعبٌ. يقول تفرق الناس فرقاً، فصار الاختلاف لازماً لأهوائهم، والتباين مقترناً بآرائهم، في كل جزيرة أمير المؤمنين ومنبرٌ، يدعو إلى نفسه ويخطب على منبره لجذب الأمر إليه. وقوله " أمير المؤمنين " لفظه معرفةٌ للإضافة المعتادة في هذه اللفظة المألوفة على الحد الذي ترى، لكن التنوين منويٌ، وإذا كان كذلك كان في حكم النكرات. وإنما ساغ ذلك لأن قوله " أمير المؤمنين " يشار به إلى الحال، أي فيها أمير على المؤمنين، واسم الفاعل إذا أريد به الحال أو الاستقبال كانت إضافته على وجه التخفيف لا على وجه التعريف، ويصير التنوين الذي هو الأصل منوياً فيه، وعلى هذا قوله:" عارضٌ ممطرنا " لأن التقدير ممطرٌ لنا. وكذلك قوله عز وجل:" هدياً بالغ الكعبة ". وعنى بذلك ابن الزبير ونظراءه ممن كان يطلب الخلافة في أيام عبد الملك بن مروان. وهذا البيت منعطفٌ بما فيه على قوله " هروا فتنةً ".
ولتعلمن ذبيان إن هي أعرضت ... أنا لنا الشيخ الأغر الأكبر
يقول على وجه التوعد: لتعلمن هذه القبيلة إن توجهت نحونا أنا لنا هذا الرئيس المشهور الشأن، العظيم الأمر. ويقال: عنى به زهير بن جذيمة العبسي. وقيل هو قيس بن زهير. ويروى " إن هي أدبرت ". والمعنى: إن ولت وأعرضت، فإنها ستعلم أنا نكتفي من دونهم. ويجوز أن يكون المراد بأدبرت: تركت الحق. وجواب إن في قوله:" لتعلمن ذبيان "، وقد مضى مثله.