لإجلال الكتب، والعجب من عوام المحدثين كيف يجيزون قول الرجل: أخبرني فلان، ويمنعون إن كتب سماعه بخط نفسه، أو إلحاق سماعه فيها بما يتيقنه" [وانظر: التنكيل للمعلمي (١/ ٢٣٠/ ٧٤) و (١/ ٢٣٤/ ٧٨)].
ولو كان الرجل ساقطًا كذابًا، يدعي سماع ما لم يسمع، ولقاء من لم يلق؛ لسقط حديثه كله، ولما جاز للخطيب على تثبته واحتياطه أن يكثر من الرواية عنه في كتبه، قال المعلمي في التنكيل (١/ ٢٣٠/ ٧٤): "والخطيب معروف بشدة التثبت بل قد يبلغ به الأمر إلى التعنت؛ فلم يكن ليروي عن مصنف الأبار إلا عن نسخة موثوق بها، بعد معرفته صحة سماع ابن دوما"، وقال في موضع آخر (١/ ٤٥٣/ ٢١٠): "أول عبارة الخطيب: كانت أصول أبي بكر الهيتي سقيمة كثيرة الخطأ، أي أنه كان شيخًا مستورًا صالحًا فقيرًا مقلًا معروفًا بالخير وكان مغفلًا ... ، والخطيب معروف بالتيقظ والتثبت؛ فلم يكن ليروي عن هذا الرجل إلا ما يثق بصحته" [وانظر أيضًا: التنكيل (١/ ٢٠١/ ٣٧) و (١/ ٤٥٣/ ٢٠٨)]، وبناء على ذلك فإن الخطيب البغدادي لم يكن ليستجيز الرواية عن شيخه أبي العلاء - بعدما قال فيه ما قال - إلا بعد تحققه من ثبوت سماعه لما يرويه، وأنه من أصوله العُتُق صحيحة السماع، ومنه روايته لتاريخ المفضل الغلابي الذي تداوله العلماء بهذا الإسناد وتلقوه بالقبول.
وقد أكثر الخطيب جدًّا عن القاضي أبي العلاء الواسطي في معظم مصنفاته، ولم يقدح في مروياته عن أبي بكر البابسيري بشيء، ولا في روايته لكتاب المفضل الغلابي، مما يدل على أن الأصل عنده فيها السماع، بدليل إكثاره هو نفسه من الرواية عنه في مصنفاته، حيث استبعد الأصول المضطربة التي تكلم في سماعها، ورضي ما بقي مما لم ينتقد عليه، وقد روى الخطيب عن شيخه أبي العلاء هذا ما سمعه من أبي بكر البابسيري بواسط، عن الأحوص بن المفضل الغلابي في مواضع من التاريخ وغيره [تاريخ بغداد (٢/ ١٨٠) و (٧/ ٤٦) و (٩/ ١٩ و ٦٧) و (١٠/ ١٨) و (١١/ ١٢٦) و (١٢/ ٢٦١) و (١٣/ ١٢٥) و (١٤/ ١٠٨ و ٤٠٦)، الفقيه والمتفقه (٢/ ٣٣٦ و ٤٢٦)، تالي التلخيص (٢/ ٣٩٩)]، مما يدل على أنه كان يرى صحة سماع القاضي أبي العلاء من شيخه أبي بكر البابسيري.
إذا علمت ذلك، وأن ما ذكره الخطيب عنه من أوهام وأمور تستنكر، ثم إكثاره من الرواية عنه، مع بيان إمكان الاعتذار عن ذلك؛ فإن ذلك لا يوجب ضعفه، ولا اطراح مروياته، خصوصًا روايته للكتب المشهورة التي شاركه فيها غيره، مثل تاريخ المفضل بن غسان الغلابي، والذي تداوله جماعة من العلماء والمصنفين من طريق أبي العلاء الواسطي هذا، وهذا الذي ذكرته خلاف ما ذهب إليه الذهبي حيث قال في مصنفاته: "حكى عنه الخطيب أشياء توجب ضعفه"، وفي موضع آخر: "توجب وهنه"، وقد رد ذلك ابن حجر في اللسان فقال: "والذي ظهر لي من سياق ترجمته في تاريخ الخطيب أنه وهِم في أشياء بيَّن الخطيبُ بعضها، وأما كونه اتهم بها أو ببعضها فليس هذا مذكورًا في تاريخ الخطيب، ولا غيره، وقد اعتمد الخطيبُ أبا العلاء في أشياء من تاريخه.