للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

اللهَ اللهَ فيهم، وانظرْ في أمر العامَّة، فإنَّ المُلْكَ إنما يقوم بهم، ولا ينتهينَّ إليك أمرٌ فيه صلاحُ المسلمين إلَّا وقدَّمتَه على غيره وإنْ خالف هواك، وخذ من قويِّهم لضعيفهم، وعجِّل الرِّحلةَ إلى العراق، إلى مَقرِّ ملكِك وسلطانك، وانظرْ هؤلاء القومَ الذين أنست بساحتهم فلا تغفل عن أمرهم، وقوِّهم على الغزو بالعُدَّة والسِّلاح والرِّجال، واتقِ اللهَ في أمرك كلِّه، والسلام.

ولما اشتدَّ به الموت، أَوصاه وصيةً بالغةً ثم قال: وعليك بأبي عبدِ الله أحمدَ بن أبي دُؤاد، لا تفارقْه وأَشركه في المشورة في أمورك؛ فإنَّه موضعٌ لذلك، ولا تتَّخذنَّ بعدي وزيرًا تُلقي إليه شيئًا، فقد علمتَ ما نكبني به يحيى بنُ أكثمَ في معاملة الناسِ وخُبْثِ سيرته، حتَّى أبان اللهُ لي ذلك منه في صحَّة منِّي، فصرتُ إلى مفارقته، فأنا له غير راضٍ بما صنع في أموال اللهِ ﷿ وصدقاتِه، فلا جزاه اللهُ عن الإِسلام خيرًا، وهؤلاء بنو عمِّك من ولد أميرِ المؤمنين عليِّ بن أبي طالب، فأَحسِن صُحبتَهم، وتجاوزْ عن مسيئهم، واقْبَل من محسنهم، ولا تغفُل عن صِلاتهم؛ فإنها واجبةٌ عليك، ثم تلا قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)﴾ الآيات [آل عمران: ١٥٢ وما بعدها].

وكان قريبًا من مدينة طَرَسُوس [قال الصُّولي:] عهد [المأمونُ] إلى أخيه (١): وعبدُ الله بن طاهرٍ فأقِرَّه على عمله، وكذا إسحاقُ بن إبراهيمَ بنِ مصعب، وكان على بغداد.

[وحكى العُتْبيُّ عن] أحمدَ بن مرزوقٍ قال (٢)؛ لما دخل المأمونُ بلادَ الروم آخرَ مرَّة، وقف قريبًا من طَرَسوسَ على تلٍّ عالٍ وأنشأ يقول: [من البسيط]

حتَّى متى أنا في شَدٍّ (٣) وتَرْحال … وطولِ سَعيٍ وإدبارٍ وإقبالِ

ونازحُ الدارِ لا أنفكُّ مغتربًا … عن الأَحبَّة لا يدرون ما حالي

بمَشرِق الأرض طَورًا أو بمغربها … لا يخطرُ الموت من حرصٍ على بالي

ولو قعدتُ أَتاني الرزقُ في دَعَةٍ … إنَّ القُنوعَ الغِنى لا كثرةُ المال


(١) في (خ) و (ف): وكان فيما عهد إلى أخيه …
(٢) في (خ) و (ف): وقال أحمد بن مرزوق.
(٣) في تاريخ دمشق ٣٩/ ٢٨٣: حط.