إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ فَجِيءَ بِهِ عَلَى كُرْسِيِّهِ فَوُضِعَ فِي حِجْرِهِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا كُلُّهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ»
فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ بِسَبَبِ مَرَضٍ شَدِيدٍ أَلْقَاهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ مِنْهُ جَسَداً وَذَلِكَ لِشِدَّةِ الْمَرَضِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي الضَّعِيفِ إِنَّهُ لَحْمٌ عَلَى وَضَمٍ وَجِسْمٌ بِلَا رُوحٍ ثُمَّ أَنابَ أَيْ رَجَعَ إِلَى حَالِ الصِّحَّةِ، فَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِهَذِهِ الْوُجُوهِ وَلَا حَاجَةَ الْبَتَّةَ إِلَى حَمْلِهِ عَلَى تِلْكَ الْوُجُوهِ الرَّكِيكَةِ الرَّابِعُ: أَقُولُ لَا يَبْعُدُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ ابْتَلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَسْلِيطِ خَوْفٍ أَوْ تَوَقُّعِ بَلَاءٍ مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ عَلَيْهِ، وَصَارَ بِسَبَبِ قُوَّةِ ذَلِكَ الْخَوْفِ كَالْجَسَدِ الضَّعِيفِ الْمُلْقَى عَلَى ذَلِكَ الْكُرْسِيِّ، ثُمَّ إِنَّهُ أَزَالَ اللَّهُ عَنْهُ ذلك الخوف، وأعاده إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُوَّةِ وَطِيبِ الْقَلْبِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي فَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ حَمَلُوا الْكَلَامَ الْمُتَقَدِّمَ عَلَى صُدُورِ الزَّلَّةِ مِنْهُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا تَقَدُّمِ الذَّنْبِ لَمَا طَلَبَ الْمَغْفِرَةَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْفِكُ الْبَتَّةَ عَنْ تَرْكِ الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى، وَحِينَئِذٍ يَحْتَاجُ إِلَى طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لِأَنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، وَلِأَنَّهُمْ أَبَدًا فِي مَقَامِ هَضْمِ النَّفْسِ، وَإِظْهَارِ الذِّلَّةِ وَالْخُضُوعِ، كَمَا
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّةً»
وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ هَذَا الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيمُ مُهِمِّ الدِّينِ عَلَى مُهِمِّ الدُّنْيَا، لِأَنَّ سُلَيْمَانَ طَلَبَ الْمَغْفِرَةَ أَوَّلًا ثُمَّ بَعْدَهُ طَلَبَ الْمَمْلَكَةَ. وَأَيْضًا الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى سَبَبٌ لِانْفِتَاحِ أَبْوَابِ الْخَيْرَاتِ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ سُلَيْمَانَ طَلَبَ الْمَغْفِرَةَ أَوَّلًا ثُمَّ تَوَسَّلَ بِهِ إِلَى طَلَبِ الْمَمْلَكَةِ، وَنُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَكَذَا فَعَلَ أَيْضًا لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ [نُوحٍ: ١٠- ١٢] وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي مُشْعِرٌ بِالْحَسَدِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ اسْتَوْلَى عَلَى مَمْلَكَتِهِ قَالُوا مَعْنَى قَوْلِهِ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، هُوَ أَنْ يُعْطِيَهُ اللَّهُ مُلْكًا لَا تَقْدِرُ الشَّيَاطِينُ أَنْ يَقُومُوا مَقَامَهُ الْبَتَّةَ، فَأَمَّا الْمُنْكِرُونَ لِذَلِكَ فَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُلْكَ هُوَ الْقُدْرَةُ فَكَانَ الْمُرَادُ أَقْدِرْنِي عَلَى أَشْيَاءَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرِي الْبَتَّةَ، لِيَصِيرَ اقْتِدَارِي عَلَيْهَا مُعْجِزَةً تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِي وَرِسَالَتِي. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ عَقِيبَهُ فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ فَكَوْنُ الرِّيحِ جَارِيًا بِأَمْرِهِ قُدْرَةٌ عَجِيبَةٌ وَمُلْكٌ عَجِيبٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ دَالَّةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ فَكَانَ قَوْلُهُ: هَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي هُوَ هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ شَرْطَ الْمُعْجِزَةِ أَنْ لَا يَقْدِرَ غَيْرُهُ عَلَى مُعَارَضَتِهَا، فَقَوْلُهُ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي يَعْنِي لَا يَقْدِرُ/ أَحَدٌ عَلَى مُعَارَضَتِهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا مَرِضَ ثُمَّ عَادَ إِلَى الصِّحَّةِ عَرَفَ أَنَّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا صَائِرَةٌ إِلَى الْغَيْرِ بِإِرْثٍ أَوْ بِسَبَبٍ آخَرَ، فَسَأَلَ رَبَّهُ مُلْكًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ الَّذِي سَأَلَهُ بِقَوْلِهِ: مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أَيْ مُلْكًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنِّي إِلَى غَيْرِي الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ أَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا أَشَقُّ مِنَ الِاحْتِرَازِ عَنْهَا حَالَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا إِلَهِي أَعْطِنِي مَمْلَكَةً فَائِقَةً عَلَى مَمَالِكِ الْبَشَرِ بِالْكُلِّيَّةِ، حَتَّى أَحْتَرِزَ عَنْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا لِيَصِيرَ ثَوَابِي أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ الْوَجْهُ الرَّابِعُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا عَسِرٌ صَعْبٌ، لِأَنَّ هَذِهِ اللَّذَّاتِ حَاضِرَةٌ وَسِعَادَاتِ الآخرة نسيئة،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute