للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَوْ كَانَ إِلَهُ أَيُّوبَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ لَمَنَعَ مِنْ وَلِيِّهِ، وَمِنْ قَائِلٍ آخَرَ يَقُولُ: بَلْ هُوَ الَّذِي فَعَلَ مَا فَعَلَ لِيُشْمِتَ عَدُوَّهُ بِهِ وَيُفْجِعَ بِهِ صَدِيقَهُ. فَقَالَ أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: الْحَمْدُ للَّه حِينَ أَعْطَانِي وَحِينَ نَزَعَ مِنِّي، عُرْيَانًا خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَعُرْيَانًا أَعُودُ فِي التُّرَابِ، وَعُرْيَانًا أُحْشَرُ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَلَوْ عَلِمَ اللَّه فِيكَ أَيُّهَا الْعَبْدُ خَيْرًا لَنَقَلَ رُوحَكَ مَعَ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ وَصِرْتَ شَهِيدًا وَآجَرَنِي فِيكَ، وَلَكِنَّ اللَّه عَلِمَ مِنْكَ شَرًّا فَأَخَّرَكَ. فَرَجَعَ إِبْلِيسُ إِلَى أَصْحَابِهِ خَاسِئًا.

فَقَالَ عِفْرِيتٌ آخَرُ: عِنْدِي مِنَ الْقُوَّةِ مَا إِذَا شِئْتْ صِحْتُ صَوْتًا لَا يَسْمَعُهُ ذُو رُوحٍ إِلَّا خَرَجَتْ رُوحُهُ، فَقَالَ إِبْلِيسُ:

فَأْتِ الْغَنَمَ وَرِعَاءَهَا فَانْطَلَقَ فَصَاحَ بِهَا فَمَاتَتْ وَمَاتَ رِعَاؤُهَا. فَخَرَجَ إِبْلِيسُ مُتَمَثِّلًا بِقَهْرَمَانِ الرُّعَاةِ إِلَى أَيُّوبَ فَقَالَ لَهُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ: وَرَدَّ عَلَيْهِ أَيُّوبُ الرَّدَّ الْأَوَّلَ، فَرَجَعَ إِبْلِيسُ صَاغِرًا. فَقَالَ عِفْرِيتٌ آخَرُ: عِنْدِي مِنَ الْقُوَّةِ مَا إِذَا شِئْتُ تَحَوَّلْتُ رِيحًا عَاصِفَةً أَقْلَعُ كُلَّ شَيْءٍ أَتَيْتُ عَلَيْهِ، قَالَ فَاذْهَبْ إِلَى الْحَرْثِ وَالثِّيرَانِ فَأَتَاهُمْ فَأَهْلَكَهُمْ ثُمَّ رَجَعَ إِبْلِيسُ مُتَمَثِّلًا حَتَّى جَاءَ أَيُّوبَ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ فَرَدَّ عَلَيْهِ أَيُّوبُ الرَّدَّ الْأَوَّلَ، فَجَعَلَ/ إِبْلِيسُ يُصِيبُ أَمْوَالَهُ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى أَتَى عَلَى جَمِيعِهَا. فَلَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ صَبْرَهُ عَلَى ذَلِكَ وَقَفَ الْمَوْقِفَ الَّذِي كَانَ يَقِفُهُ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى، وَقَالَ: يَا إِلَهِي هَلْ أَنْتَ مُسَلِّطِي عَلَى وَلَدِهِ، فَإِنَّهَا الْفِتْنَةُ الْمُضِلَّةُ. فقال اللَّه تعالى: انطلق فقد سلطتك على وَلَدِهِ، فَأَتَى أَوْلَادَ أَيُّوبَ فِي قَصْرِهِمْ فَلَمْ يَزَلْ يُزَلْزِلُهُ بِهِمْ مِنْ قَوَاعِدِهِ حَتَّى قَلَبَ الْقَصْرَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى أَيُّوبَ مُتَمَثِّلًا بِالْمُعَلِّمِ وَهُوَ جَرِيحٌ مَشْدُوخُ الرَّأْسِ يَسِيلُ دَمُهُ وَدِمَاغُهُ، فَقَالَ: لَوْ رَأَيْتَ بَنِيكَ كَيْفَ انْقَلَبُوا منكوسين على رؤوسهم تَسِيلُ أَدْمِغَتُهُمْ مِنْ أُنُوفِهِمْ لَتَقَطَّعَ قَلْبُكَ، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ هَذَا وَيُرَقِّقُهُ حَتَّى رَقَّ أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَكَى وَقَبَضَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ وَوَضَعَهَا عَلَى رَأْسِهِ. فَاغْتَنَمَ ذَلِكَ إِبْلِيسُ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى اسْتَغْفَرَ وَاسْتَرْجَعَ فَصَعِدَ إِبْلِيسُ وَوَقَفَ مَوْقِفَهُ وَقَالَ: يَا إِلَهِي إِنَّمَا يَهُونُ عَلَى أَيُّوبَ خَطَرُ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، لِعِلْمِهِ أَنَّكَ تُعِيدُ لَهُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ فَهَلْ أَنْتَ مُسَلِّطِي عَلَى جَسَدِهِ وَإِنِّي لَكَ زَعِيمٌ لَوِ ابْتَلَيْتَهُ فِي جَسَدِهِ لَيَكْفُرَنَّ بِكَ، فَقَالَ تَعَالَى: انْطَلِقْ فَقَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى جَسَدِهِ وَلَيْسَ لَكَ سُلْطَانٌ عَلَى عَقْلِهِ وَقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ فَانْقَضَّ عَدُوُّ اللَّه سَرِيعًا فَوَجَدَ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَاجِدًا للَّه تَعَالَى فَأَتَاهُ مِنْ قِبَلِ الْأَرْضِ فَنَفَخَ فِي مَنْخَرِهِ نَفْخَةً اشْتَعَلَ مِنْهَا جَسَدُهُ وَخَرَجَ بِهِ مِنْ فَرْقِهِ إِلَى قَدَمِهِ ثَآلِيلُ وَقَدْ وَقَعَتْ فِيهِ حَكَّةٌ لَا يَمْلِكُهَا، وَكَانَ يَحُكُّ بِأَظْفَارِهِ حَتَّى سَقَطَتْ أَظْفَارُهُ، ثُمَّ حَكَّهَا بِالْمُسُوحِ الْخَشِنَةِ ثُمَّ بِالْفَخَّارِ وَالْحِجَارَةِ، وَلَمْ يَزَلْ يَحُكُّهَا حَتَّى تَقَطَّعَ لَحْمُهُ وَتَغَيَّرَ وَنَتَنَ، فَأَخْرَجَهُ أَهْلُ الْقَرْيَةِ وَجَعَلُوهُ عَلَى كُنَاسَةٍ وَجَعَلُوا لَهُ عَرِيشًا وَرَفَضَهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ غَيْرَ امْرَأَتِهِ رَحْمَةَ بِنْتِ أَفْرَايِمَ بْنِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَانَتْ تُصْلِحُ أُمُورَهُ، ثُمَّ إِنَّ وَهْبًا طَوَّلَ فِي الْحِكَايَةِ إِلَى أَنْ قَالَ: إِنَّ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقْبَلَ عَلَى اللَّه تَعَالَى مُسْتَغِيثًا مُتَضَرِّعًا إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَبِّ لِأَيِّ شَيْءٍ خَلَقْتَنِي يَا لَيْتَنِي كُنْتُ حَيْضَةً أَلْقَتْنِي أُمِّي، وَيَا لَيْتَنِي كُنْتُ عَرَفْتُ الذَّنْبَ الَّذِي أَذْنَبْتُهُ، وَالْعَمَلَ الَّذِي عَمِلْتُ حَتَّى صَرَفْتَ وَجْهَكَ الْكَرِيمَ عَنِّي، أَلَمْ أَكُنْ لِلْغَرِيبِ دَارًا، وَلِلْمِسْكِينِ قَرَارًا، وَلِلْيَتِيمِ وَلِيًّا، وَلِلْأَرْمَلَةِ قَيِّمًا، إِلَهِي أَنَا عَبْدٌ ذَلِيلٌ إِنْ أَحْسَنْتُ فَالْمَنُّ لَكَ وَإِنْ أَسَأْتُ فَبِيَدِكَ عُقُوبَتِي، جَعَلْتَنِي لِلْبَلَاءِ غَرَضًا، وَلِلْفِتْنَةِ نَصْبًا، وَسَلَّطْتَ عَلَيَّ مَا لَوْ سَلَّطْتَهُ عَلَى جَبَلٍ لَضَعُفَ مِنْ حَمْلِهِ. إِلَهِي تَقَطَّعَتْ أَصَابِعِي، وَتَسَاقَطَتْ لَهَوَاتِي، وَتَنَاثَرَ شَعْرِي وَذَهَبَ الْمَالُ، وَصِرْتُ أَسْأَلُ اللُّقْمَةَ فَيُطْعِمُنِي مَنْ يَمُنُّ بِهَا عَلَيَّ وَيُعَيِّرُنِي بِفَقْرِي وَهَلَاكِ أَوْلَادِي.

قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّه، وَفِي جُمْلَةِ هَذَا الْكَلَامِ: لَيْتَكَ لَوْ كَرِهْتَنِي لَمْ تَخْلُقْنِي، ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا لَاغْتَنَمَهُ إِبْلِيسُ، فَإِنَّ قَصْدَهُ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى الشَّكْوَى، وَأَنْ يُخْرِجَهُ عَنْ حِلْيَةِ الصَّابِرِينَ، واللَّه تَعَالَى لَمْ يُخْبِرْ عَنْهُ إِلَّا قَوْلَهُ: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: ٤٤] وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي السَّبَبِ الَّذِي قَالَ لِأَجْلِهِ: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ

<<  <  ج: ص:  >  >>