أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وذلك احد الدلائل عَلَى وُجُودِ اللَّهِ وَعَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ. وَثَانِيهَا: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ وَهُوَ أَيْضًا مِنَ الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى الْوُجُودِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وَهُوَ أَيْضًا إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ.
إِذَا ثبت هذا فنقول: أول الآية اشارة ذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُودِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَآخِرُهَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا دَلِيلًا عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ بَلْ كَانَ الْمُرَادُ كَوْنَهُ مُسْتَقِرًّا عَلَى الْعَرْشِ كَانَ ذَلِكَ كَلَامًا أَجْنَبِيًّا عَمَّا قَبْلَهُ وَعَمَّا بَعْدَهُ فَإِنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى مُسْتَقِرًّا عَلَى الْعَرْشِ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ دَلِيلًا عَلَى كَمَالِهِ فِي الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَلَيْسَ أَيْضًا مِنْ صِفَاتِ المدح الثناء لِأَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُجْلِسَ/ جَمِيعَ أَعْدَادِ الْبَقِّ وَالْبَعُوضِ عَلَى الْعَرْشِ وَعَلَى مَا فَوْقَ الْعَرْشِ فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ جَالِسًا عَلَى الْعَرْشِ لَيْسَ مِنْ دَلَائِلِ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَالذَّاتِ ولا من صفات المدح الثناء فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ كَوْنَهُ جَالِسًا عَلَى الْعَرْشِ لَكَانَ ذَلِكَ كَلَامًا أَجْنَبِيًّا عَمَّا قَبْلَهُ وَعَمَّا بَعْدَهُ وَهَذَا يُوجِبُ نِهَايَةَ الرَّكَاكَةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ لَيْسَ ذَلِكَ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ كَمَالُ قدرته في تدابير الملك والملكوت حتى تصبر هَذِهِ الْكَلِمَةُ مُنَاسِبَةً لِمَا قَبْلَهَا وَلِمَا بَعْدَهَا وهو المطولب. وَثَامِنُهَا: أَنَّ السَّمَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَا ارْتَفَعَ وَسَمَا وَعَلَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى السَّحَابَ سَمَاءً حَيْثُ قَالَ: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الْأَنْفَالِ: ١١] وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكُلُّ مَا لَهُ ارْتِفَاعٌ وَعُلُوٌّ وَسُمُوٌّ كَانَ سَمَاءً فَلَوْ كَانَ إِلَهُ الْعَالَمِ مَوْجُودًا فَوْقَ الْعَرْشِ لَكَانَ ذَاتُ الْإِلَهِ تَعَالَى سَمَاءً لِسَاكِنِي الْعَرْشِ. فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ فَوْقَ الْعَرْشِ لَكَانَ سَمَاءً وَاللَّهُ تعالى حكم بكونه خالقا لكل السموات في آيات كثيرة هَذِهِ الْآيَةُ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فَلَوْ كَانَ فَوْقَ الْعَرْشِ سَمَاءً لِسُكَّانِ أَهْلِ الْعَرْشِ لَكَانَ خَالِقًا لِنَفْسِهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي يَجِبُ تَأْوِيلُهَا وَهَذِهِ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ وَنَظِيرُ هَذَا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ في أول سورة الانعام: هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ [الْأَنْعَامِ: ٣] ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ [الْأَنْعَامِ: ١٤] فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ على ان كل ما في السموات فهو ملك الله فلو كان الله في السموات لزم كونه ملكا لنفسه وذلك مال فكهذا هاهنا فَثَبَتَ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ قَوْلِهِ:
ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ عَلَى الْجُلُوسِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَشَغْلِ الْمَكَانِ وَالْحَيِّزِ وَعِنْدَ هَذَا حَصَلَ لِلْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ مَذْهَبَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ نَقْطَعَ بِكَوْنِهِ تَعَالَى مُتَعَالِيًا عَنِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ وَلَا نَخُوضَ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ بَلْ نُفَوِّضُ عِلْمَهَا إِلَى اللَّهِ وَهُوَ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آلِ عِمْرَانَ: ٧] وَهَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ الَّذِي نَخْتَارُهُ وَنَقُولُ بِهِ وَنَعْتَمِدُ عَلَيْهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ نَخُوضَ فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ وَفِيهِ قَوْلَانِ مُلَخَّصَانِ: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَقَالَ: الْعَرْشِ فِي كَلَامِهِمْ هُوَ السَّرِيرُ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَيْهِ الْمُلُوكُ ثُمَّ جُعِلَ الْعَرْشُ كِنَايَةً عَنْ نَفْسِ الْمَلِكِ يُقَالُ: ثُلَّ عَرْشُهُ أَيِ انْتَفَضَ مُلْكُهُ وَفَسَدَ. وَإِذَا استقام له ملكه واطراد أَمْرُهُ وَحُكْمُهُ قَالُوا: اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ وَاسْتَقَرَّ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ هَذَا مَا قَالَهُ الْقَفَّالُ. وَأَقُولُ: إِنَّ الَّذِي قَالَهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَصَوَابٌ ونظيره قولهم
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute