فَحَصَرَهَا، وَنَصَبَ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ، وَتَابَعَ الزَّحْفَ إِلَيْهَا، فَاجْتَمَعَ مَنْ بَقِيَ بِالسَّاحِلِ مِنَ الْفِرِنْجِ، فَجَاءُوا فِي حَدِّهِمْ وَحَدِيدِهِمْ، وَمُلُوكِهِمْ وَفُرْسَانِهِمْ، وَقِسِّيسِيهِمْ، وَرُهْبَانِهِمْ، وَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، وَكَانَ الْمُقَدَّمُ عَلَيْهِمُ الْبِرِنْسَ بَيْمُنْدَ، صَاحِبَ أَنْطَاكِيَةَ، وَقُمَّصُ، صَاحِبُ طَرَابُلُسَ وَأَعْمَالِهَا، وَابْنُ جُوسَلِينَ، وَهُوَ مِنْ مَشَاهِيرِ الْفِرِنْجِ، وَالدُّوكِ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ كَبِيرٌ مِنَ الرُّومِ، وَجَمَعُوا الْفَارِسَ وَالرَّاجِلَ، فَلَمَّا قَارَبُوهُ رَحَلَ عَنْ حَارِمَ إِلَى أَرْتَاحَ طَمَعًا أَنْ يَتْبَعُوهُ، فَيَتَمَكَّنَ مِنْهُمْ ; لِبُعْدِهِمْ عَنْ بِلَادِهِمْ إِذَا لَقُوهُ، فَسَارُوا، فَنَزَلُوا عَلَى غَمَّرَ، ثُمَّ عَلِمُوا عَجْزَهُمْ عَنْ لِقَائِهِ، فَعَادُوا إِلَى حَارِمَ، فَلَمَّا عَادُوا تَبِعَهُمْ نُورُ الدِّينِ فِي أَبْطَالِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَعْبِئَةِ الْحَرْبِ.
فَلَمَّا تَقَارَبُوا اصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ، فَبَدَأَ الْفِرِنْجُ بِالْحَمْلَةِ عَلَى مَيْمَنَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهَا عَسْكَرُ حَلَبَ وَصَاحِبُ الْحِصْنِ، فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ فِيهَا، وَتَبِعَهُمُ الْفِرِنْجُ، فَقِيلَ كَانَتْ تِلْكَ الْهَزِيمَةُ مِنَ الْمَيْمَنَةِ عَلَى اتِّفَاقٍ وَرَأْيٍ دَبَّرُوهُ، وَهُوَ أَنْ يَتْبَعَهُمُ الْفِرِنْجُ فَيَبْعُدُوا عَنْ رَاجِلِهِمْ، فَيَمِيلُ عَلَيْهِمْ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِالسُّيُوفِ، فَيَقْتُلُوهُمْ، فَإِذَا عَادَ فُرْسَانُهُمْ لَمْ يَلْقُوا رَاجِلًا يَلْجَأُونَ إِلَيْهِ، وَلَا وَزَرًا يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ، وَيَعُودُ الْمُنْهَزِمُونَ فِي آثَارِهِمْ، فَيَأْخُذُهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ، وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ، فَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا دَبَّرُوهُ: فَإِنَّ الْفِرِنْجَ لَمَّا تَبِعُوا الْمُنْهَزِمِينَ عَطَفَ زَيْنُ الدِّينِ عَلِيٌّ فِي عَسْكَرِ الْمَوْصِلِ عَلَى رَاجِلِ الْفِرِنْجِ، فَأَفْنَاهُمْ قَتْلًا وَأَسْرًا، وَعَادَ خَيَّالَتُهُمْ، وَلَمْ يُمْعِنُوا فِي الطَّلَبِ خَوْفًا عَلَى رَاجِلِهِمْ، فَعَادَ الْمُنْهَزِمُونَ فِي آثَارِهِمْ، فَلَمَّا وَصَلَ الْفِرِنْجُ رَأَوْا رِجَالَهُمْ قَتْلَى وَأَسْرَى، فَسُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا وَبَقُوا فِي الْوَسَطِ قَدْ أَحْدَقَ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَاشْتَدَّتِ الْحَرْبُ، وَقَامَتْ عَلَى سَاقٍ، وَكَثُرَ الْقَتْلَى فِي الْفِرِنْجِ، وَتَمَّتْ عَلَيْهِمُ الْهَزِيمَةُ، فَعَدَلَ حِينَئِذٍ الْمُسْلِمُونَ عَنِ الْقَتْلِ إِلَى الْأَسْرِ، فَأَسَرُوا مَا لَا يُحَدُّ، وَفِي جُمْلَةِ الْأَسْرَى صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ وَالْقُمَّصُ، صَاحِبُ طَرَابُلُسَ، وَكَانَ شَيْطَانَ الْفِرِنْجِ، وَأَشُدَّهُمْ شَكِيمَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالدَّوْكُ مُقَدَّمُ الرُّومِ، وَابْنُ جُوسَلِينَ، وَكَانَتْ عِدَّةُ الْقَتْلَى تَزِيدُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ قَتِيلٍ.
وَأَشَارَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى نُورِ الدِّينِ بِالْمَسِيرِ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ وَتَمَلُّكِهَا لِخُلُوِّهَا مِنْ حَامٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute