للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

غيره، فيقول بالضمان للطائر مطلقا، سواءٌ طار عقب الفتح أو بعْدَ ذلك، والشافعي يقول: إن طَارَ عقِبَ الفتح ضِمنَ وإِلا فَلَا.

لنا أن هذه الصورة سببُ الإتلاف عادةً فتُوجبُ الضمان كسائر صُوَرِ التسَبُّبِ المجمع عليها (٨).

احتجوا بأنها إذا اجتمع المسبِّب والمباشِر اعتُبِرتْ المباشَرَةُ دونه، والطيرُ مباشِرٌ باختياره لحركة نفسِهِ، والحيوان قصْدُه معتبَر، بدليل جوارح الصّيْد، إن أمسكت لنفْسها لَا يُوكَلُ، أو للصائد أُكِلَ.

والجواب لا نُسَلِّمُ أن الطير كان مختارًا للطيران، ولعَلَّه كان مختارًا للإقامة، لانتظار العَلف أو خوف الجوارح، وانما طار خوفا من الفاتح، وإذا احتمل هذا والسببُ معلومٌ، فيضاف الضمان إليه، كحافر البئر يقع فيها حيوان مع إمكان اختياره لنزولها. (٩) ولا نسلِّم أن الصيد لا يُوكل إذا أكَل منه الجارحُ، (١٠) سلمناه،


(٨) فرق القرافي هنا رحمه الله بين السبب والتسبب فقال في حد كل واحد منهما وتعريفه بالسبب ما يقال عادة: حصل الهلاك به من غير توسط، والتسبب ما يحصل الهلاك عندهُ بعلة اخرى إذا كان السببُ هو المقتضيَ لوقوع الفعل تلك العلة، كحفر البئر في محل، عدوانا، فيتردى فيها بهيمة أو غيرها، فإن أرْداها غير الحافر فالضمان عليه دون الحافر، تقديما للمباشِر على التسبب، ثم قال: ويضمن المُكْرَهُ على إتلاف المال، لأن الإكراه سبب وفاتح القفص بغير إذن ربه، فيطير ما فيه حتى لا يُقدَرَ عليه، والذي يحُلَّ دابة من رباطها أو عبدا مقيدا خوف الهرب فيهرب، لأنه متسبب، كان الطيران أو الهرب عقب الفتح والحلّ أم لا.
(٩) قال القرافي هنا: وأما القاء غير الحافر للبئر انسانا، أو القاؤه هو نفسه في البِئر، فالفرق أنَّ قصد الطائر ونحوه ضعيف، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "جَرْحُ العجماء جُبَارُ"، والآدميُّ يضمن، قصدَ أو لم يَقصِدْ، فهذا هو تقرير قاعدة ما يوجب الضمان وقاعدة ما لا يوجبه. والعجماء، الحيوان، ويجمع على عجماوات.
(١٠) الجارح، وجَمْعُه جوارح، المراد به: الكلب أو الصقْر الباز المعَلَّم والمدرَّب على اصطياد الصيد من الطير ونحوه، والإتيان به لصاحبه حين اصطياده، وقد يجرح ذلك الكلبُ المعلَّم والبازي ذلك الصيد المصطادَ وينالُ منه بمخلبه، وظفرْه، فيوكل ذلك الصيد إذا كان مما يباح اكله شرعا، وذكَر صاحِبُه اسمَ الله عليه عند ارسال الكلب (والبازي للصيد والاتيان به). وإلى ذلك تشير الآية الكريمة في قول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [المائدة: ٤].
وأحكام وتفاصيل هذا الموضوع مبسوطة في كتب التفسير وشروح الحديث والمؤلفات الفقهية.

<<  <  ج: ص:  >  >>