للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في هبته كالكلب يعود في قيئه" (١) فقال الشافعي - وهو يرى أن له الرجوع -: ليس بمحرّم على الكلب أن يعود في قيئه.

قال أحمد: فقلت له: فقد قال النبي : "ليس لنا مثل السوء" فسكت - يعني الشافعي - فالشافعي تمسك بالظاهر، وهو أن الكلب لم يحرم عليه الرجوع في قيئه؛ فالظاهر أن الواهب إذا رجع، مثله في عدم التحريم، لأن الظاهر من التشبيه استواء المشبه والمشبه به من كل وجه، مع احتمال أن يفترقا من بعض الوجوه، احتمالًا قويًا جدًّا.

فضعف حينئذ جانب أحمد في الاستدلال جدًّا؛ لأنه لم يبقَ معه إلا احتمال ضعيف قوّاه بالقرينة المذكورة، وهي قوله في صدر الحديث المذكور: "ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالعائد في قيئه" وهو دليل قوي. وجعل ذلك مقدّمًا على المثل المذكور وهو دليل الاهتمام به.

فأفاد ذلك لغةً وعرفًا، أن الرجوع في الهبة مَثل سوء، وقد نفاه صاحب الشرع، وما نفاه صاحب الشرع يحرم إثباته، فلزم من ذلك عدم جواز الرجوع في الهبة فيجب نفيه.

وهكذا لا يكون جائزًا للواهب الرجوع في هبته، لأن ذلك مثَلُ سوءٍ نفاه الشارع (٢).


(١) أخرجه أصحاب الكتب السنة: البخاري (٢٥٨٩)، ومسلم (١٦٢٢)، أبو داود (٣٥٣٨)، الترمذي (١٢٩٨)، ابن ماجه (٢٣٨٥)، النسائي (٣٦٩٠) عن ابن عباس. وانظر: "نصب الراية" للزيلعي (٤/ ١٢٦).
(٢) راجع: "روضة الناظر" لابن قدامة مع "الشرح" لبدران (٢/ ٣٤) هذا وقد أتى الشارح بمثال للقرينة المنفصلة من مسائل الفقه وهي ما ذكره الفقهاء في باب السير: فيمن جاء من أهل الجهاد بمشرك، فادعى أنه أمَّنه وأنكر المسلم فادعى أسره. ففيها أقوال: ثالثها أن القول قول من ظاهرٌ الحال صِدقه: فلو كان الكافر أظهر قرة، وبطشًا، وشهامة من المسلم؛ جعل ذلك قرينة في تقديم قوله، مع أن قول المسلم لإسلامه وعدالته أرجح، وقول الكافر مرجوح، لكن القرينة المنفصلة عضدته حتى صار أقوى من قول المسلم الراجح، والله أعلم. وانظر: "المهذب" للشيرازي (١/ ٤٤٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>