قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: البدعة كلُّ ما فُعل ابتداء من غير مثال سابق، وأما البدعة الشرعيّة فما لم يدلّ عليه دليلٍ شرعيّ -إلى أن قال-: ثم ذلك العمل الذي دلّ عليه الكتاب والسنّة ليس بدعة في الشريعة، وإن سُمّي في اللغة، فلفظ البدعة في اللغة أعمّ من لفظ البدعة في الشريعة، وقد عُلم أن قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "كلُّ بدعة ضلالة" لم يُرد به كلّ عمل مبتدأ، فإن دين الإسلام، بل كلّ دين جاء به الرسل فهو عملٌ مبتدأ، وإنما أراد ما ابتُدئ من الأعمال التي لم يشرعها النبيّ -صلى الله عليه وسلم-. انتهى) (١).
والحاصل أن المراد بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "كل بدعة ضلالة" هي البدعة الشرعيّة، لا اللغويّة.
ومن أقوى الأدلة على التفريق بين البدعة الشرعيّة واللغويّة ما أخرجه الشيخان في "صحيحيهما"، من حديث عائشة -رضي الله عنها-، مرفوعًا:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردّ"، ففي قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما ليس منه " إشارةٌ واضحةٌ إلى أن من المحدثات ما يكون من الشرع، وهو ما له أصل يستند إليه من الأدلة الشرعيّة.
وقد غلا بعض الناس في هذا الباب، حيث تمسّك بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فكل بدعة ضلالة" فاعتقد أن كلّ ما أُحدث فهو من البدع الضلالة، وهذا غلوّ، وجفاء، وتفريط في عدم الجمع بين أطراف النصوص في هذا الباب، وتدبّرها، وتفهّمها حقّ تدبّر وتفهّم، كما فعل هؤلاء المحقّقون الذين تقدمت أقوالهم، فإياك، ثم إياك أن تكون من هذا المصنف، أو تقلّد منهم أحدًا، اللهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين، آمين، آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): أنه قد تبيّن بما سبق من أقوال أهل العلم في تعريف البدعة أنها هي التي تُفْعَل بقصد القربة، وهذا أصل أصيلٌ يفرّقُ به بين الفعل الذي يكون بدعةً، والفعل الذي يكون معصيةً فقط، وإن كانت البدعة معصيةً لله سبحانه وتعالى إلا أنها تفوق المعصية في الإثم والحكم.