والحاصل أن قصر الصلاة للمسافر واجبٌ، وإن أتمّ جاز مع الكراهة؛ لمخالفة السنة، وإنما جاز؛ لفعل عثمان -رضي اللَّه عنه-، وصلاة الصحابة -رضي اللَّه عنهم- خلفه، مع إنكارهم لإتمامه، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في المسافة التي يجوز فيها القصر:
قال ابن رُشد -رَحِمَهُ اللَّهُ-: اختلفوا في ذلك اختلافًا كثيرًا، فذهب مالك، والشافعيّ، وأحمد، وجماعة كثيرة إلى أن الصلاة تقصر في أربعة بُرُد، وذلك مسيرة يوم بالسير الوسط.
وقال أبو حنيفة، وأصحابه والكوفيون: أقل ما تُقْصَر فيه الصلاة ثلاثة أيام، وإن القصر إنما هو لمن سار من أُفُق إلى أُفُق، وقال أهل الظاهر: القصر في كل سفر قريبًا كان أو بعيدًا.
والسبب في اختلافهم معارضة المعنى المعقول من ذلك اللفظَ، وذلك أن المعقول من تأثير السفر في القصر أنه لمكان المشقة الموجودة فيه، مثل تأثيره في الصوم، وإذا كان الأمر على ذلك، فيجب القصر حيث المشقة، وأما من لا يراعي في ذلك إلا اللفظ فقط، فقال: قد قال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه وضع عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة"، فكل مَن انطلق عليه اسم مسافر جاز له القصر والفطر، وأيدوا ذلك بما رواه مسلم (١)، عن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يقصر في نحو السبعة عشر ميلًا.
وذهب قوم إلى خامس كما قلنا وهو أن القصر لا يجوز إلا للخائف؛ لقوله تعالى:{إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}[النساء: ١٠١]، وقد قيل: إنه مذهب عائشة -رضي اللَّه عنها-، وقالوا: إن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما قصر؛ لأنه كان خائفًا.
وأما اختلاف أولئك الذين اعتبروا المشقة، فسببه اختلاف الصحابة في ذلك، وذلك أن مذهب الأربعة بُرُد مرويّ عن ابن عمر، وابن عباس، ورواه
(١) هذا وهمٌ فليس هذا الأثر عن عمر -رضي اللَّه عنه- في "صحيح مسلم"، راجع: تخريج الغماري للبداية ٣/ ٣٢٢.