للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث / الرقم المسلسل:

(قَالَ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ) أي يتشاءمون بالطيور، يقال: تطيّر من الشيء، واطّيّر منه، والاسم الطِّيَرة، وزانُ عِنَبَة، وهي التشاؤم، وكانت العرب إذا أرادت المضيّ لمهمّ مرّت بمجاثم الطير وأثارتها؛ لتستفيد هل تمضي، أو ترجع؟ فنَهَى الشرع عن ذلك، قاله الفيّوميّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- (١).

وقال ابن الأثير -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "الطِّيَرَة" -بكسر الطاء، وفتح الياء، وقد تسكن-: هي التشاؤم بالشيء، وهو مصدر تَطَيَّر، يقال تَطَيَّرَ طِيَرَة، وتَخَيَّرَ خِيَرَةً، ولم يجئ من المصادر هكذا غيرهما.

وأصل التطيُّر: التفاؤل بالطير، واستُعمل لكلّ ما يُتفاءل به، ويُتشاءم، وكانت العرب تتطيَّر بالطيور والظباء، فيستبشرون بالسَّوَانح، وهي أن يَمُرّ الطير والصيد من اليسار إلى اليمين، ويتشاءمون بالْبَوَارح، وهي مرور الطير والصيد من اليمين إلى اليسار، وكان ذلك يصدّهم عن مقاصدهم، فنفاه الشرع، وأبطله، ونَهَى عنه، وأخبر أنه ليس له تأثير في جلب نفع، أو دفع ضر. انتهى بتصرف (٢).

(قَالَ) النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جوابًا عن سؤاله هذا: ("ذَاكَ) إشارة إلى التطيّر المفهوم من "يتطيّرون" (شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ) أي ليس له أصلٌ يُستنَد إليه، ولا له بُرهان يُعتمَد عليه، ولا هو في كتاب منزل من عند اللَّه تعالى، وقيل: معناه: أنه معفُوّ عنه؛ لأنه يوجد في النفس بلا اختيار، نَعَم المشي على وفقه منهيّ عنه، فلذا قال: (فَلَا يَصُدَّنَّهُمْ") أي لا يمنعنّهم عما هم فيه.

قال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: معنى ذلك أن الإنسان بحكم العادة يجد في نفسه نفرةً وكراهةً مما يُتطيَّر به، فينبغي له أن لا يلتفت إلى تلك النفرة، ولا لتلك والكراهة، ويمضي لوجهه الذي خرج إليه، فإن تلك الطيرة لا تضرّ، وإن لم تضرّ فلا تصدّ الإنسان عن حاجته، وأشار به إلى أن الأمور كلّها بيد اللَّه تعالى، فينبغي أن يُعوَّل عليه، وتُفَوَّضَ جميع الحوائج إليه، ويُفهَم منه أن هذا الوجدان لتك النفرة لا يُلام واجدها عليها شرعًا؛ لأنه لا يقدر على الانفكاك


(١) "المصباح المنير" ٢/ ٣٨٢.
(٢) "النهاية في غريب الأثر" ٣/ ١٥٢.