بكلّ فرقة مرّةً، فصلاته -صلى اللَّه عليه وسلم- الثانية وقعت له نفلًا، وللمقتدين فرضًا، ولا شكّ في ذلك.
ومن الحجج أيضًا الحديث الصحيح الذي قدّمناه عن الرجلين اللذين صلّيا في رحالهما، وهي قصّة صحيحة، مشهورة، وأخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذيّ بسند صحيح، عن أبي سعيد الخدريّ -رضي اللَّه عنه- أن رجلًا دخل المسجد، وقد صلَّى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بأصحابه، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من يتصدق على هذا، فيصلي معه؟ "، فقام رجل من القوم، فصلّى معه.
وفي رواية أبي داود: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أبصر رجلًا يصلي وحده، فقال:"ألا رجل يتصدق على هذا، فيصلي معه"، وهذا الرجل الذي تصدّق بالصلاة معه متنفّل، اقتدى بمفترض بأمر النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-.
والحاصل أن الحقّ ما قاله الشافعيّ، وفقهاء أصحاب الحديث، وسيأتي مزيد تحقيق في محلّه -إن شاء اللَّه تعالى-.
٩ - (ومنها): ما قاله العراقيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: إنه يجوز للإمام إذا مَرِض، وعجز عن القيام أن يصلي بنفسه، ولا يستخلف، لكن الأفضل له الاستخلاف.
قال الشافعيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وإنما اخترت أن يُوَكِّل الإمام إذا مرض رجلًا صحيحًا يصلي بالناس قائمًا أن مرض رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان أيامًا كثيرةً، وإنا لم نعلمه صلّى بالناس جالسًا في مرضه إلا مرةً واحدةً لم يُصَلِّ بهم بعدها عَلِمته حتى لقي اللَّه عز وجل، فدلّ ذلك على أن التوكيل بهم، والصلاةَ قاعدًا جائزان عنده معًا، وكان ما صلّى بهم غيرُهُ بأمره أكثر من ذلك. انتهى.
قال العراقيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ومراد الشافعيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- بكونه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يصل بالناس جالسًا في مرضه إلا مرة: مرض موته، فإنه قد صلّى بهم في غير مرض الموت غير مرة، وهو جالس، وهم جلوس، كما دلّت عليه الأحاديث، وكذا ذكر الحنابلة، أنه يستحب له الاستخلاف عند العجز عن القيام، وعَلَّلوه بأن الناس اختلفوا في صحة إمامته، فنخرج من الخلاف، وبأن صلاة القائم أكمل، فيُستحب أن يكون الإمام كامل الصلاة.
وأجابوا عن هذا الحديث بأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- فعل ذلك لبيان الجواز، واستَخْلَف في الأكثر، وبأن الاقتداء بالنبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قاعدًا أفضل من الاقتداء بغيره قائمًا.