إسحاق ابن راهويه ناظر الشافعيّ، وأحمدُ بن حنبل حاضرٌ في جلود الميتة إذا دُبغت، فقال الشافعيّ: دباغها طَهورها، فقال له إسحاق: ما الدليل؟ فقال: حديث الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عبّاس، عن ميمونة، أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال:"هلّا انتفعتم بإهابها"، فقال له إسحاق: حديث ابن عُكيم: كَتَب إلينا النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قبل موته بشهر:"أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عَصَب"، فهذا يُشبه أن يكون ناسخًا لحديث ميمونة، لأنه قبل موته بشهر، فقال الشافعيّ: فهذا كتاب، وذاك سماع، فقال إسحاق: فإن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كَتَب إلى كسرى وقيصر، فكانت حجةً بينهم عند الله، فسكت الشافعيّ، فلما سمع ذلك أحمد ذهب إلى حديث ابن عُكيم، وأفتى به، ورجع إسحاق إلى حديث الشافعيّ.
قال الحازميّ: وقد حَكَى الخلّال في "كتابه" عن أحمد أنه توقّف في حديث ابن عُكيم لَمّا رأى تزلزل الرواة فيه، وقال بعضهم: رجع عنه.
قال الحازميّ: وطريق الإنصاف فيه أن يقال: إن حديث ابن عُكيم ظاهر الدلالة في النسخ لو صَحّ، ولكنه كثير الاضطراب، ثم لا يقاوم حديث ميمونة في الصحّة، وقال النسائيّ: أصحّ ما في هذا الباب في جلود الميتة إذا دُبغت حديث الزهريّ، عن عبيد الله، عن ابن عبّاس، عن ميمونة - رضي الله عنهما -.
قال الحازميّ: وروينا عن الدُّوريّ أنه قال ليحيى بن معين: أيما أعجب إليك من هذين الحديثين: "لا ينتفع من الميتة بإهاب، ولا عَصَب"، أو "دباغها طهورها"؟. فقال:"دباغها طهورها" أعجب إليّ.
قال الحازميّ: فإذا تعذّر ذلك، فالمصير إلى حديث ابن عبّاس أولى؛ لوجوه من الترجيحات، ويُحمَلُ حديث ابن عُكيم على الانتفاع به قبل الدباغ، وحينئذ يُسمّى إهابًا، وبعد الدباغ يُسمّى جلدًا، ولا يُسمّى إهابًا، وهذا معروف عند أهل اللغة؛ ليكون جمعًا بين الحكمين، وهذا هو الطريق في نفي التضادّ عن الأخبار. انتهى كلام الحافظ أبي بكر الحازميّ رحمه الله (١) ببعض اختصار.
قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد الحافظ الحازميّ رحمه الله وأفاد، فتلخّص
(١) "كتاب الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الأخبار" ص ٥٦ - ٥٩.