أظنّها من الكذب الذي كُذب به على هذه الطائفة الفاضلة، فكم قد كَذَبَ عليها الزنادقة، وأعداء الدين (١).
قال: وبيان ما يُحقّق ذلك أن هذا الشيخ إما أن يكون قاصدًا لأمر ذلك المريد بدخول التنّور، أو لا، فإن كان قاصدًا كان قصده ذلك معصيةً، ولا طاعة فيها بنصّ النبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويكون امتثال المريد لذلك معصيةً، وكيف تظهر الكرامات على العصاة في حال معصيتهم؟، فإن الكرامة تدلّ على حسن حال من ظهرت على يديه، وأنه مطيع لله تعالى في تلك الحالة مع جواز أمر آخر يكون في المستقبل.
وإن كان ذلك الشيخ غير قاصد لذلك، ولا شاعر بما صدر عنه، فكيف يحلّ للمريد أن يُلقي نفسه في النار بأمر غلَط، لا حقيقة له، ثم هذا المريد عاص بذلك الفعل، ولا يظهر على العاصي كرامة في حال ملابسته للمعصية، ولو جاز ذلك لجاز للزناة، وشَرَبَة الخمر، والفَسَقَة أن يدّعوا الكرامات، وهم ملابسون لفسقهم، هذا ما لا يجوز إجماعًا، وإنما تُنسب الكرامات لأولياء الله، وهم أهل طاعته، لا أولياء الشيطان، وهم أهل الفسق والعصيان.
والأَولى في هذه الحكاية، وأشباهها مما لا يليق بأحوال الفضلاء،
(١) قال الجامع عفا الله عنه: في دعوى القرطبيّ الكذب عليهم نظر لا يخفي، فإن هذه القصّة وأشباهها موجود في كتب هذه الطائفة، ومسطّر عندهم، يتبجّحون به، ويجعلونه من جملة كرامات مشايخهم، فمن شكّ في هذا، فليُطالع "طبقات الشعرانيّ" الكبرى، و"رسالة القشيريّ"، و"جامع كرامات الأولياء" للنبهانيّ، وغير ذلك من الكتب المعتمدة عندهم التي يجعلونها أساسًا لطريقتهم، ويذكرون لمريديهم فضلها، ويحثّونهم على سلوك ما وجّهت إليه، ومن خالفها فقد هلك وعطب، ولا ينال مما عندهم من المدد شيئًا، بل يكون محرومًا مطرودًا، فكيف يقال: إن هذا مما كَذَب عليها الزنادقة؟ هيهات هيهات، فإن أردت أن تعلم أنّ ما قلته حقًّا، فراجع على سبيل المثال: "طبقات الشعرانيّ" ٢/ ٩٧ و ١٢٢ و ١٦٦ و ١٦٧ ترى العجب العجاب، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨)}، اللهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، إنك وليّ ذلك، والقادر عليه، آمين.