الطبع البشريّ في محبة المال، فقسمه فيهم؛ لتطمئن قلوبهم، وتجتمع على محبته؛ لأنها جُبِلت على حبّ من أحسن إليها، ومَنَع أهل الجهاد من أكابر المهاجرين، ورؤساء الأنصار، مع ظهور استحقاقهم لجميعها؛ لأنه لو قَسَم ذلك فيهم، لكان مقصورًا عليهم، بخلاف قسمته على المؤلّفة؛ لأن فيه استجلاب قلوب أتباعهم الذين كانوا يرضون إذا رضي رئيسهم، فلما كان ذلك العطاء سببًا لدخولهم في الإسلام، ولتقوية قلب من دخل فيه قبلُ تَبِعهم من دونهم في الدخول، فكان في ذلك عظيم المصلحة، ولذلك لم يقسم فيهم من أموال أهل مكة عند فتحها قليلًا ولا كثيرًا مع احتياج الجيوش إلى المال الذي يُعينهم على ما هم فيه، فحرّك الله قلوب المشركين لغزوهم، فرأى كثيرةم أن يَخرجوا معهم بأموالهم ونسائهم وأبنائهم، فكانوا غنيمة للمسلمين، ولو لم يَقذف الله في قلب رئيسهم أن سوقها معهم هو الصواب، لكان الرأي ما أشار إليه دُرَيد فخالفه، فكان ذلك سببًا لتصييرهم غنيمة للمسلمين، ثم اقتضت تلك الحكمة أن تُقسم تلك الغنائم في المؤلفة، ويُوكَل مَن قلبه ممتلئ بالإيمان إلى إيمانه، ثم كان من تمام التأليف ردُّ من سُبي منهم إليهم، فانشرحت صدورهم للإسلام، فدخلوا طائعين راغبين، وجَبَر ذلك قلوب أهل مكة بما نالهم من النصر والغنيمة عما حصل لهم من الكسر والرعب، فصَرَّف عنهم شرَّ من كان يجاورهم من أشدّ العرب من هوازن وثقيف بما وقع بهم من الكسر، وبما قيّض لهم من الدخول في الإسلام، ولولا ذلك ما كان أهل مكة يطيقون مقاومة تلك القبائل مع شدّتها وكثرتها.
وأما قصة الأنصار، وقول من قال منهم، فقد اعتَذَر رؤساؤهم بأن ذلك كان من بعض أتباعهم، ولما شَرَح لهم -صلى الله عليه وسلم- ما خفي عليهم من الحكمة فيما صنع رجعوا مذعنين، ورأوا أن الغنيمة العظمى ما حصل لهم من عود رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بلادهم، فسَلَوا عن الشاة والبعير والسبايا من الأنثى والصغير بما حازوه من الفوز العظيم، ومجاورة النبيّ الكريم -صلى الله عليه وسلم- لهم حيًّا وميتًا، وهذا دأب الحكيم، يعطي كل أحد ما يناسبه. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله ملخصًا (١)، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، وبحثٌ أنيس.