قال النوويّ - رَحِمَهُ اللهَ -: في هذا جواز الحلف بغلبة الظنّ بقرائن، وإن لَمْ يقطع الإنسان، وهذا مذهبنا، ومِنْ هذا قالوا: له الحلف بدين رآه بخط أبيه الميت على فلان؛ إذا ظنه.
[فإن قيل]: فلعلّ عائشة لَمْ تحلف على ظنّ، بل على علم، وتكون سمعته من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في آخر أجزاء حياته.
[قلنا]: هذا بعيد من وجهين:
أحدهما: أن عمر، وابن عمر سمعاه - صلى الله عليه وسلم - يقول:"يعذّب ببكاء أهله".
والثاني: لو كان كذلك لاحتجّت به عائشة، وقالت: سمعته في آخر حياته - صلى الله عليه وسلم -، ولم تحتجّ به، إنما احتجّت بالآية، والله أعلم. انتهى (١).
وقوله:(إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَحَدٍ) بدل من الضمير في قولها: "ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، تعني أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يقل: إن الميت يُعذّب ببكاء أحد من الناس لا مطلقًا ولا مقيّدًا، قال القاري - رَحِمَهُ اللهُ -: وهذا النفي المؤكّد بالقسم منها بناءٌ على ظنّها وزعمها، أو مقيّدٌ بسماعها، وإلا فمن حَفِظَ حجة على من لَمْ يحفظ، والمثبت مقدّمٌ على النافي، وكيف والحديث رُوي من طرق صحيحة بألفاظ صريحة، مع أنه بعمومه لا ينافي ما قالت بخصوصه. انتهى.
وقال القرطبيّ - رَحِمَهُ اللهُ -: أنكرت عائشة - رضي الله عنها - هذا الحديث، وصرّحت بتخطئة الناقل، أو نسيانه، وحَمَلَها على ذلك أنَّها لَمْ تسمعه كذلك، وأنه معارَضٌ بقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[فاطر: ١٨] وهذا فيه نظر، أما إنكارها، ونسبة الخطأ لراويه فبعيد، وغير بيِّنٍ، ولا واضح، وبيانه من وجهين:
[أحدهما]: أن الرواة لهذا المعنى كثيرون: عمر، وابن عمر، والمغيرة بن شعبة، وقَيْلَة بنت مَخْرَمَة، وهم جازمون بالرواية، فلا وجه لتخطئتهم، وإذا أُقدِم على ردّ خبر جماعة مثلِ هؤلاء، مع إمكان حمله على محمل صحيح، فلأن يُرد خبر راو واحد أولي، فردّ خبرها أولي، على أن الصحيح أن لا يُردّ واحد من تلك الأخبار، ويُنظر في معانيها، كما نُبيِّنه.
[ثانيهما]: أنه لا معارضة بين ما رَوَت هي، وبين ما رووا هم؛ إذ كلّ