والمعنى أنّ من حِكَمِ تنزيل القرآن مُنجَّماً مُتَابَعةَ جَدَليَّاتِ الذين كَفَرُوا فيما يُقَدّمونَه من أمْثِلَةٍ يصْطَنِعُونها بآرائهم، ويقترحونها، ويَرَوْن أَنَّها هيَ الصُّوَر الأفْضَل الَّتي ينْبَغِي أنْ يكون عليها حالُ الرسُولِ، أو حالُ القرآن، أو حالُ أحكام الشريعةِ والمنهاج.
فَبِهَذِهِ المتابعة يقدّم اللَّهُ عزّ وجَلَّ في النصّ اللاَّحق ما يكْشِفُ به وجْه الحقّ لمنْ يَطْلُب الحقَّ بصدْق، إذا كان ما اقترحه الكافرون من الأمور الباطلة.
ويقدّم في النّصّ اللاّحقِ ما يتضمَّن تفسير وجْهِ الحكمة من الطريقة الرَّبانيّة المختارة، إذا كان ما اقترحه الكافرون إحدى الصُّوَر الممكنة غير المرفوضة عقلاً، لكِنَّ الاختيارَ الرّبّانيّ قد كان هو الأفضل والأَحْسَن والأحْكَم، فيكُونُ تَفْسيرُ ما جاء من عنْد الله في كلّ ذلك لمُلاَءَمَةِ الأفْضَلِ والأحْسَنِ والأحكم، هو الأحْسَن والأفضل والأحكَمَ من تفسير ما اقترحوه.
وحينما يكون تفسير ما أنزل الله أحْسَنَ من تفسير ما افترحوه، يكونُ ما أنزل الله عزّ وجلّ أحْسَنَ ممّا اقترحوه حتماً، وهذا من الاستدلال بلازم الشيء عليه..
والمرادُ مِنَ المثَل هنا: النَّمُوذَجُ المقترحُ الذي يُقَدّمه الكافرون، في اعتراضاتهم وجَدَليّاتهم، حولَ ما ينبغي - بحَسَبِ آرائِهِمُ القاصرة - أنْ يكونَ عليه الرسولُ، أو القرآن، أو الْحُكْمُ الدينيّ، أو الطريقة الرَّبَّانيَّة في وسيلَةِ التبليغ، أو غير ذلك.
ولمّا كانت مقترحاتُ الناس بمثابة صُوَرٍ مُرْسُومَةٍ يُقَدِّمونَها، ليكونَ الواقعُ التَّطبيقيُّ على وَفْقِها، كَانَ أَدَقُّ تَعْبِيرٍ جامع هو التعبيرُ عنْها بأنَّها أمْثال، والواحِد منها "مَثَل" فقال اللَّهُ عزّ وجلّ لرسوله: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً}[الآية: ٣٣] ، ومن الأمثال النماذج الّتي تُوضَع للمَباني التي ستقام أو يقترح المهندسونّ إقامتها.