إنّ الذكِيّ اللَّمَّاح إذا أراد أن يتحدّث عن شيءٍ ما، صفةً كانَ، أو موصوفاً، أو نسبةً حكميّة، جالَ ذهْنُهُ لِيَدُلَّ على ما يُريد التعبير عنه بطريقة غير مباشرة، وطافَ في محيط ذلك الشيء لينتقي ممّا يلاحظ ما يُدلُّ به عليه، فَيُبْعِدُ حيناً، ويَقْرُبُ حيناً، ويتوسطُ حيناً آخر، ويستَبْعِدُ ما لا يَراه حسناً جميلاً، ومَا لاَ يرى دلالته مناسبةً لمقتضى الحال.
إنَّهُ يُرِيدُ مثلاً أنْ يتحدّث عن السّاحرات، فيرى من خصائصهنَّ أنَّهُنَّ يَعْقِدْنَ في الخيوط، وتتحرَّك ألْسِنَتُهُنَّ بهَمْهَماتٍ وَغَمْغَمات، ويَنْفُثْنَ فِي الْعُقَد، فيَدُلُّ عليهنَّ بعبارة:"النَّفَّاثات في الْعُقَد" على سبيل الكناية التي تدلُّ على المعنى المراد بطريقٍ غير مباشر.
ويريد مثلاً أن يتحدّث عن البخيل، ولكنْ لا يستَحْسِنُ استعمال لفظة "البخيل" في كلامه، لأنّ دلالتها دلالَةٌ مباشرة، وليس فيها إبداعٌ فكريّ، فيلاحظ أنّ من سِمَات البخيل قبض يَدَيْه عن العطاء، فيكنّى عن الْبُخْل بعبارة "قبض اليدين، أو قبض اليد" ويكنّي عن البخيل بعبارة "قابض اليدين، أو قابض اليد" وعبارة "قبض الْيَد" أدقّ، لأنّ العطاء يكون بيد واحدة في الناس.
ويريد أن يتحدّث عن شديد الْبُخْل الّذي لا يستطيع أن يمدّ يَدَهُ بعطاء، فيكنّي بعبارة:"مَغْلُول الْيَدِ إلى العُنق" لأنّ من كانت يده مغلولة إلى عنقه كان غير قادر على أن يبسطها لو أراد بسطها ويعطي بها أو يأْخُذ، وكذلك الشحيح الذي يكون بُخْلُهُ شدِيداً، تكون حالة يدِهِ الّتي يعطي بها عادة مع شُحّ نفسه، كحالة مَنْ غُلَّتْ يَدُهُ إلى عُنُقِه.
هذا التعبير اشتمل على مَزْج الكناية بتشبيه ضِمْنِيّ، وتقديم ذلك بعبارة جميلة بديعة تدلُّ على المقصود بطريقة غير مباشرة.
وفي مقابل هذه الكناية تأتي كناية بسط اليّد للدّلاَلة بها على الجود. وتأتي كناية الإِفراط في البسط للدّلالة بها على الإِسراف.