للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قَالَ [١] : وقيل: إنّه كَانَ يُتقنُ أربعة عشر [٢] فنّا من العلوم. وكان الحنفية يقرءون عَلَيْهِ مذهبهم، ويَحِلُّ مسائلُّ «الجامع الكبير» أحسنَ حلّ. وكذلك أهل الذّمّة يقرءون عَلَيْهِ التوراةَ والإنجيل، ويَشرحُها لهم شرحا، يعترفون أنّهم لا يجدونَ مَنْ يُوَضِّحُها لهم مثله. وكذلك فِي كُلُّ فنٍّ متَى أخِذَ معه فيه يُوهم أَنَّهُ لا يَعرف سواه لجَودةِ معرفتهِ بِهِ. وبالجملةِ فأخبارُ فضلهِ فِي جميع العلوم مشهورةٌ حتّى إنَّ الأثيرَ مفضلَ بن عُمَر الأبْهري- عَلَى جلالَة قَدْره فِي العلم ومَا لَهُ من التّصانيف كالتعليقةِ فِي الخلافِ والزّيج- يَجْلِسُ بين يديه، ويَقرأ عَلَيْهِ والناسُ- يومَ ذاك- يشتغلونَ فِي تصانيف الأثير. وسُئِل الشيخُ كمالُ الدّين عن الأثير ومنزِلته فِي العلوم، فقال: ما أعلمُ! فقيلَ: وكيفَ وهو فِي خدمتك منذ سنين عديدةٍ واشتغلَ عليك؟ فقالَ: لأنِّي مَهما قلتُ لَهُ تَلَقَّاه بالقَبولِ، وما جاذَبني فِي مَبحثٍ قَطُّ حتّى أعلمَ حقيقةَ فَضْلِه. ولمّا حَجَّ الشيخُ قَالَ الأثير- لمّا بلغه أنّهم لم ينصفوه من دار الخلافة-: والله ما دَخَلَ بغداد مثل أبي حامد الغزّاليّ، وو الله ما بينه وبين الشَّيْخ نسبة.

قَالَ ابنُ خَلِّكان [٣] : وكان الشيخُ يَعرِفُ الفقهَ، والأصلين، والخلافَ، والمنطقَ، والطبيعيَّ، والإلهيَّ، والمجسطيّ، وإقْلِيدس، والهيئة، والحساب، والجبر، والمقابلة، والمساحة، والموسيقى معرفة لا يُشاركه فِيهَا غيره. وكان يُقرئُ «كتابَ سِيبوَيْه» ، و «المفصّل» للزَّمخشريَّ. وكان لَهُ فِي التفسيرِ، والحديثِ، وأسماءِ الرجال يدٌ جيّدة. وكانَ يحفظُ من التاريخُ والأخبارِ شيئا كثيرا.

وله شعرٌ حسن. وكان الأثيرُ يَقْرأ عَلَيْهِ فِي المجسطيّ، وهي لفظةٌ يونانية، أي:

التّرتيب. وكانَ شيخُنا تقيّ الدّين ابن الصلاح يُبالغُ فِي الثناءِ عَلَيْهِ، ويعُظِّمه، فقيلَ لَهُ يوما: من شيخُه؟ فقال: هذا الرجل خلقَه اللَّه عالما، لا يُقال: عَلَى مَنِ اشتغل؟ فإنّه أكبر من هذا.


[١] وفيات الأعيان ٥/ ٣١١، ٣١٢.
[٢] في وفيات الأعيان: «أربعة وعشرين» .
[٣] في وفيات الأعيان: ٥/ ٣١٢.