وخلاصة القول أن العالم والفنان يعبران عن حقيقة واحدة بطريقتين مختلفتين: الأول يعبر بطريقة نظرية والآخر يعبر بطريقة جمالية، وهذان المظهران من مظاهر الحقيقة ليسا مظهرا واحدا، فكلمة "أحمر" أو "أزرق" أو "أصفر" على سبيل المثال تستخدم كإدراك افتراضي وكإدراك وهمي في كلا المستويين العلمي والجمالي، أي أن هذه الكلمة تستخدم فعليا بمستويين مختلفين في المعنى.
ففي الحالة الأولى تعني هذه الكلمة عدد افتراضي من أطوال الموجات غير المنظورة في النظرية الكهربائية المغناطيسية، وإن كان من السخف حقا أن نقول -على سبيل المثال: إن طول الموجة "أزرق". أو أن نؤكد بلا معنى أن لهذه الكهربائيات صوتا ما. أما الحالة الثانية فإن هذه الكلمة تعني للمصور أو الرسام الإحساس الفوري باللون، وهنا يدرك الفنان اللون إدراكا مباشرا، دون ما أشارة إلى المغزى النفعي للون أو الاصطلاحي له. فإذا عرجنا على المستوى الثالث للغة بعد المستوى الجمالي والمستوى النظري وهو مستوى لغة الحياة اليومية، فإننا نواجه المعبر الفعلي عن هذا المستوى، ألا وهو الفن الصحفي.
والصحافة تضم أنواعا متباينة من اللغة كلغة التجارة، واللغة الرسمية، ولغة الدين، واللغة العامية الخاصة بالعمال والفلاحين، واللغة الدارجة ... إلخ ولكن لغة الفن الصحفي هي لغة جديدة، تقرب من لغة المحادثة المثقفة، وهي ليست لغة مباشرة كلغة الأدب، التي يصور بها الأديب ما يراه ويرسمه بقلمه؛ لأن لغة الفن الصحفي هي لغة المغزى والمعنى والأهمية.
حقيقة أن "نقاء" لغة الأدب، حين يعبر الفنان عن اللون باللون، وعن النغمة بالنغمة وعن الشكل بالشكل، قد تظهر في الصحافة أحيانا، كما أن لغة العلم قد تظهر في بعض الصحف، ولكن لغة الفن الصحفي الأصيل، القائمة على الوظيفية الهادفة والوضوح والإشراق، اللغة العملية، تكاد تكون فنا تطبيقيا قائما بذاته. فالفن الصحفي تعبير اجتماعي شامل، ولغته ظاهرة مركبة خاضعة لكل مظاهر النشاط الثقافي من علم وفن وموسيقى وفن تشكيلي ... إلخ، هذا إلى جانب السياسة والتجارة والاقتصاد والموضوعات العامة.
إن الفن الصحفي فن تطبيقي يهدف إلى الاتصال بالناس ونقل المعاني والأفكار إليهم، فهو أداة وظيفية وليس فنا جماليا يقصد لذاته. وسنرى أن للفن الصحفي وظائف محدودة هي: الإعلام والتفسير والتوجيه والتشويق والإمتاع والتنشئة الاجتماعية. ومع ذلك فلغة الفن الصحفي تختلف عن كل هذه جميعا لأنها تتضمنها كلها ولا تقتصر على أي منها؛ لأن القراء ليسوا قطاعا واحدا من الناس ولكنهم في الغالب كل الناس، ولأن الصحفي يكتب لكل الناس في كل الأوقات -وليس لجزء من الناس في كل الأوقات أو لكل الناس بعضا من الوقت- فإنه يجب عليه أن يجاهد لتحقيق هدفه بوجه عام وهو جعل رسالته مفهومة لدى الجميع.