القائمة على التجارة والزراعة الحرة بدلا من الزراعة الإقطاعية، وتكوين الشركات والمصارف كل هذه العوامل الحضارية قد هيأت الجو لظهور فن المقال الصحفي.
ويلاحظ أن تطور الحماية الأدبية ورعاية الفنون عامة وانتقالها من طبقة إلى أخرى على مر العصور قد أثر تأثيرا قويا في شكل المقال وأسلوبه. فعندما كان المقال موجها إلى الارستقراطية والطبقة الوسطى المثقفة كمقالات أحمد لطفي السيد في الجريدة، ومقالات أديب إسحاق في مصر والتجارة، كان لا بد للكاتب أن يعنى بدقة اللفظ، ورصانة العبارة، وجمال الذوق في الكتابة. وعندما دالت دولة الارستقراطية بعد الثورة الفرنسية، وبعد الثورة المصرية في ٢٣ يوليه سنة ١٩٥٢، وبدأت عهود الديمقراطية، انتقلت الرعاية الصحفية إلى سواد الشعب، فكان لا بد لأسلوب الكتابة الصحفية أن يتغير ويشكل نفسه تشكيلا جديدا، يتلاءم مع عقلية السادة الجدد، وجلهم من العمال والفلاحين وصغار الموظفين.
وقد كان فن المقال الصحفي غير معروف في البداية، ولم يكن هناك فرق بين المقال الأدبي والمقال الصحفي. فكان المقال مقيدا بقيود الماضي، وبالطريقة الأدبية العالمية، حتى جاء الشيخ محمد عبده فأخذ يقترب شيئا فشيئا من لغة الصحف، ثم جاء السيد عبد الله النديم واقترب كثيرا منها، وأعانه على ذلك ميله الطبيعي إليها. وبدأت بوادر فن المقال الصحفي عند الابتعاد عن فن الأناقة الفنية المتكلفة، والزخارف المعقدة. ولم يكد ينتهي القرن التاسع عشر حتى أصبح للصحافة في مصر لغة خاصة بها، وظهر ذلك جليا في كتابات الشيخ علي يوسف السياسية في المؤيد، وكتابات مصطفى كامل في اللواء، ولطفي السيد في الجريدة، وعبد القادر حمزة في البلاغ وغيرهم من كتاب المقال الصحفي.
وفي رأينا أن فن المقال الصحفي يختلف عن فن المقال الأدبي اختلافا جوهريا، وذلك من حيث الوظيفة والموضوع واللغة والأسلوب جميعا. فمن الثابت أن المقال الأدبي يهدف إلى أغراض جمالية، ويتوخى درجة عالية من جمال العبارة، وذلك كما يتوخاها الأديب الذي يرى الجمال غاية في ذاته، وغرضا