للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

تعين (ألست قد علمت)، وإن أريد إدخالها على ضمير الشأن مخبرًا عنه بالجملة التي أسند فعلها إلى المخاطب؛ تعين (أليس)، انتهى.

وقال العجلوني: ليتأمل معنى قول ابن حجر: مخاطبة الغائب، فإن الغائب لا يكون مخاطبًا، إلا أن يقال: مراده بذلك الإخبار عن ضمير الشأن الغائب بجملة مسند فعلها إلى المخاطب، كما يشير إليه كلام «المصابيح»، وقد يقال مراده ما في «المصابيح»، انتهى.

قلت: كل ذلك فيه ركاكة وخروج عن الظَّاهر، وكونه أراد الإخبار عن ضمير الشأن؛ بعيد عن الأفهام؛ لأنَّ المغيرة حاضر فكيف يخبر عنه بالغائب، وكونه مراده ما في «المصابيح»؛ بعيد جدًّا؛ فتأمل.

وقال القاضي عياض: يدل ظاهر قوله: (قد علمت) على عِلْمِ المغيرة بذلك، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل الظن من أبي مسعود؛ لعلمه بصحبة المغيرة، قال إمامنا الشَّارح: ولأجل ذلك ذكره بلفظ الاستفهام في قوله: (أليس)، ولكن يؤيد الوجه الأول رواية شعيب عن ابن شهاب عند البخاري في (غزوة بدر) بلفظ: (فقال: لقد علمتَ)؛ بغير الاستفهام، ونحوه عن عبد الرزاق عن معمر وابن جريج، انتهى.

قلت: فإن ما ذكره المؤلف في (المغازي) وكذا عبد الرزاق يدل صريحًا على علم المغيرة بذلك؛ لعدم أداة الاستفهام، بخلاف الرواية هنا، فإن ظاهرها ما قاله القاضي، لكن يحمل ما هنا على ما هناك، والروايات تفسر بعضها بعضًا؛ فليحفظ.

(أنَّ جبريل) -عليه السَّلام- بفتح الهمزة (نزل)؛ أي: صبيحة ليلة الإسراء التي فرضت فيها الصلوات، كما بيَّنته رواية ابن إسحاق في «المغازي»، وعبد الرزاق في «مصنفه» بسندهما: (لمَّا أصبح النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم من الليلة التي أسري به؛ لم يرعه إلا جبريل نزل حين زاغت الشمس فأمر فَصِيْحَ بأصحابه: الصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصلى به جبريل، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس...)؛ الحديث.

وزعم ابن حجر أن فيه ردًّا على من زعم أن بيان الأوقات إنَّما وقع بعد الهجرة، والحقُّ أن ذلك وقع قبلها ببيان جبريل، وبعدها ببيان النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، انتهى.

قلت: وفيه تناقض؛ لأنَّ بين البيانين صار مدة، ولا يمكن أن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم بعد بيان جبريل عليه السَّلام له الأوقات أن يتأخر عن بيانها لأمته، فقد كان من عادته عليه السَّلام إذا نزل عليه جبريل بحكم من الأحكام فمتى جلا عنه الوحي؛ يُبلِّغ الحكم من غير تأخير؛ فافهم.

(فصلى)؛ أي: جبريل الظُّهر؛ أي: صلاته، زاد أبو الوقت: (برسول الله صلى الله عليه وسلم)، وسقط (فصلى) لابن عساكر، والفاء فيه: للتعقيب؛ لأنَّ صلاة جبريل عقب نزوله حين زاغت الشمس، ويحتمل أن تكون للسببية، قيل: وفي الكلام حذف معطوف يقدر في المواضع الخمسة؛ بنحو: والناس؛ أي: وصلى الناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يدل عليه رواية جابر الآتية إن شاء الله تعالى، (فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: الظُّهر بصلاة جبريل متابعًا له في كل ركن لا مقتديًا به حقيقة؛ لأنَّ المراد تعليمه كيفيتها وقد حصلت بهذا، ويحتمل أنَّه عليه السَّلام صلى بعد فراغ جبريل، ووجهه (١) ظاهر، وقال القاضي عياض: ظاهره أن صلاته كانت بعد فراغ جبريل، لكن المنصوص في غيره أنَّ جبريل أمَّ النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، فيحمل قوله: (صلَّى، فصلَّى) : على أنَّ جبريل كان كلما فعل جزءًا من الصلاة؛ تابعه النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم ففعله، انتهى.

قال إمامنا الشَّارح: (ومبنى كلام القاضي على أنَّ الفاء في الأصل للتعقيب، فيدل على أنَّ صلاته عليه السَّلام كانت عقيب فراغ جبريل عليه السَّلام من صلاته، وحاصل جوابه: أنَّه جعل الفاء على أصلها وأوَّله بالتأويل المذكور) انتهى، قلت: وبه جزم النَّووي، ويدل عليه ما رواه المؤلف من طريق اللَّيث: «نزل جبريل فأمَّني، فصليت معه».

وقال إمامنا الشَّارح: (وذهب بعضهم إلى أن الفاء هنا بمعنى: الواو؛ لأنَّه عليه السَّلام إذا ائتمَّ بجبريل؛ يجب أن يكون مصليًا معه لا بعده، وإذا حملت الفاء على حقيقتها؛ وجب ألَّا يكون مصليًا معه، واعترض عليه بأنَّ الفاء إذا كانت بمعنى الواو؛ يحتمل أن يكون النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم صلى قَبْلَ جبريل؛ لأنَّ الواو لمطلق الجمع، والفاء لا تحتمل ذلك.

قلت: مجيء الفاء بمعنى الواو لا ينكر؛ كما في قوله:

. . . . . . . . . . . . ... بين الدخول فحومل

فإنَّ الفاء فيه بمعنى الواو، والاحتمال الذي ذكره المعترض يُدفَع بأن جبريل هنا مُبينٌ لهيئة الصلاة التي فرضت ليلة الإسراء، فلا يمكن أن يكون صلاته بعد صلاة النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وإلا؛ لا يبقى لصلاة جبريل فائدة، ويمكن أن تكون الفاء هنا للسببية؛ كما في قوله تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص: ١٥]) انتهى كلام إمام الشَّارحين، وقد ذكر عبارته العجلوني ونسبها لنفسه؛ فافهم.

وقال في «المغني» : وتفيد الفاء العاطفة ثلاثة أمور: الترتيب، والتعقيب، والسببية، وهذا غالب في العاطفة جملة أو صفة؛ نحو: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ}، ونحو: {لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ*فَمَالِئُونَ مِنْهَا البُطُونَ*فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الحَمِيمِ} [الواقعة: ٥٣ - ٥٥]، انتهى، فالتعقيب والسببية من إفادات الفاء العاطفة وهي هنا كذلك، وجعلهم كل واحد قولًا مستقلًا، أجيب عنه: بأنَّ السببية قد تنفك عن التعقيب؛ فتدبره.

(ثم صلى)؛ أي: جبريل العصر، (فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: العصر معه، (ثم صلى)؛ أي: جبريل المغرب، (فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: المغرب معه، (ثم صلى)؛ أي: جبريل العشاء، (فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: العشاء معه، (ثم صلى)؛ أي: جبريل الفجر، (فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: الفجر معه، بتكرير صلاتهما خمس مرات.

وعبر بـ (الفاء) في صلاة النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّها متعقبة لصلاة جبريل بالمعنى الذي قدمناه، وعبر بـ (ثم) في صلاة جبريل؛ لتراخيها عن سابقتها إلا الصلاة الأولى، فإنَّها كانت عقب نزوله، كما ذكرناه، فلذا عطفها بالفاء أيضًا، وأمَّا مفعولات الأفعال؛ فمحذوفة؛ لدلالة المقام عليها، كما ذكرناها فيما سبق، ويحتمل تنزيلها منزلة اللازم.

قال ابن الملقن: ولم يذكر هنا الأوقات للصلوات، وإنما ذكر عددها؛ لأنَّها كانت معلومة عند المخاطب فأبهمها، وقال ابن رجب: وليس في الحديث ذكر بيان شيء من الأوقات.

قلت: وسيأتي للمؤلف بيان كل وقت صلاة على التَّعيين ابتداءً وانتهاءً، ولكن من فعل النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم دون بيان جبريل، لكن ذكر غير المؤلف بيانها من بيان جبريل، فقد روى النسائي عن جابر رضي الله عنه، كما نقله ابن الأثير في «جامع الأصول»، ولفظه: (أنَّ جبريل أتى النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم يعلمه مواقيت الصلاة، فتقدم جبريل ورسول الله خلفه والناس خلف رسول الله، فصلى الظُّهر حين زالت الشمس، وأتاه حين صار الظل مثل الشخص، فصنع كما صنع، فتقدم جبريل ورسول الله خلفه والناس خلف رسول الله، فصلى العصر، ثم أتاه حين وجبت (٢) الشمس، فتقدم جبريل ورسول الله خلفه والناس خلف رسول الله، فصلى المغرب، ثم أتاه حين غاب الشفق، فتقدم جبريل ورسول الله خلفه والناس خلف رسول الله، فصلى العشاء، ثم أتاه حين سطع الفجر، فتقدم جبريل ورسول الله خلفه والناس خلف رسول الله، فصلى الغداة، ثم أتاه في اليوم الثاني حين صار ظل (٣) الرجل مثل شخصه، فصنع كما صنع بالأمس، فصلى الظُّهر، ثم أتاه حين كان ظل الرجل مثلي شخصه -بالتثنية-، فصنع كما صنع بالأمس، فصلى العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس، فصلى المغرب، فنمنا، ثم قمنا، ثم نمنا، ثم قمنا، فأتاه فصنع كما صنع، فصلى العشاء، ثم أتاه حين امتد الفجر وأصبح والنجوم بادية مشتبكة فصلى الغداة، ثم قال: ما بين هاتين الصلاتين وقت).

وفي رواية قال: (جاء جبريل إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم حين زالت الشمس، فقال: قم يا محمَّد؛ فصلِّ الظُّهر، فصلاها حين مالت الشمس، ثم جاءه جبريل حين كان فيء الرجل مثليه، فقال: قم يا محمَّد؛ فصلِّ العصر، ثم جاءه للمغرب حين غابت الشمس، فقال: قم فصلِّ المغرب، ثم جاءه للعشاء حين ذهب ثلث الليل الأول، فقال: قم فصلِّ العشاء، ثم جاءه حين أسفر جدًّا، فقال: قم فصلِّ، فقام فصلى الفجر،


(١) في الأصل: (ووجه)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (وجبب)، وهو تصحيف.
(٣) في الأصل: (الظل)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>