أصحاب الحِجْر قوم ثمود، وهؤلاء قوم صالح عليه السَّلام، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ المُرْسَلِينَ...} الآية [الحجر: ٨٠]، و (الحِجْر)؛ بكسر الحاء المهملة، وسكون الجيم: يطلق على معان؛ منها: الكعبة، ومنها: الحرم؛ لقوله تعالى: {حِجْرًا مَّحْجُورًا} [الفرقان: ٢٢]؛ أي: حرامًا محرمًا، ومنها: العقل؛ لقوله تعالى: {لِذِي حِجْرٍ} [الفجر: ٥]، والحجر: حجر القميص، ومنها: القوس الأنثى، ومنها: ديار ثمود -وهو المراد ههنا-: وهي ما بين مكة وتبوك، وهو الوادي الذي فيه ثمود، قاله قتادة، وقال الطبري: (هي أرض بين الحجاز والشام، وهم قوم صالح)، وقال الزهري: هو اسم مدينتهم، وإنَّما قال: {المُرْسَلِينَ} -وهو صالح وحده- إشعارًا بأنَّ من كذب نبيًّا؛ فقد كذب الأنبياء؛ لأنَّهم على دين واحد في الأصول، فلا يجوز التفريق بينهم، وقيل: كذَّبوا صالحًا ومن تقدمه من النبيين، وروى المؤلف في (المغازي) عن ابن عمر: (أنَّ النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لما نزل الحجر في غزوة تبوك؛ أمرهم ألَّا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنَّا واستقينا، فأمرهم أن يهريقوا الماء، وأن يطرحوا العجين)، وروى أيضًا في (التفسير) عن ابن عمر: (أنَّ الناس نزلوا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على الحِجْر في أرض ثمود، فاستقَوا من آبارها، وعجنوا به العجين، فأمرهم أن يهريقوا ما استقَوا، ويعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي تَرِدُها الناقة)، وروى أيضًا في (الأنبياء) عن ابن عمر قال: مررنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على الحِجْر، فقال لنا رسول الله: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم...»؛ الحديث، قال المهلب: إنَّما قال عليه السَّلام: «لا تدخلوا» من جهة التشاؤم بتلك البقعة التي نزل بها السخط والغضب، يدل عليه قوله تعالى: {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} [إبراهيم: ٤٥] في مقام التوبيخ على السكون فيها، وقد تشاءم عليه السَّلام بالبقعة التي نام فيها عن الصلاة، ورحل عنها ثم صلى، فكراهة الصلاة في موضع الخسف أولى.
ثم استثنى من ذلك، فقال: (إلا أن تكونوا باكين) حقيقة، أو متباكين حالًا أو مآلًا في ذلك المكان من شدة الخوف، فأباح الدخول فيه على وجه البكاء والاعتبار خوفًا من حلول مثل ذلك بكم، وهذا يدل على أنَّ من صلى هناك لا تفسد صلاته؛ لأنَّ الصلاة موضع البكاء والاعتبار، وزعمت الظاهرية أنَّ من صلى في بلاد ثمود وهو غير باك؛ فعليه سجود السهو إن كان ساهيًا، وإن تعمد ذلك؛ بطلت صلاته، قال الشَّارح: (وهو خُلفٌ من القول؛ إذ ليس في الحديث ما يدل على فساد صلاة من لم يبكِ، وإنَّما فيه خوف نزول العذاب به) انتهى.
وزعم ابن حجر: ليس المراد الاقتصار في البكاء على ابتداء الدخول، بل دائمًا عند كل جزء من الدخول، وأمَّا الاستغراق؛ فالكيفية المذكورة مطلوبة فيه بالأولوية، وسيأتي أنَّه عليه السَّلام لم ينزل فيه ألبتة، انتهى.
قلت: وهذا كلام فيه نظر، وبُعدٌ عن الظاهر؛ لأنَّ ظاهر الحديث يدل على إباحة دخولهم إذا كانوا باكين مطلقًا، سواء كانوا حقيقة أو متباكين في حال دخولهم أو في انتهائه، والمراد به الخوف والاعتبار، وهو يحصل بدون بكاء، فهو من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم له، فلا يلزم البكاء دائمًا كما زعمه، بل يلزم دوام الخوف والاعتبار مع البكاء في جزء من الدخول، سواء كان في الابتداء أو في الانتهاء، والبكاء لا يلزم أن يكون حقيقة، بل يجوز أن يكون حكمًا وهو المتباكي، وقوله: (وسيأتي...) إلخ: ممنوع، فإنَّا قدمنا عن المؤلف: أنَّه عليه السَّلام نزل على الحجر... ؛ الحديث، وقد رواه المؤلف من طرق متعددة في أبواب متفرقة، وهو صريح في أنه نزل فيه ألبتة؛ فافهم، والله أعلم.
(فإن لم تكونوا باكين)؛ أي: حالًا أو مآلًا في ذلك المكان من شدة الخوف حقيقة، ولا متباكين ولا خائفين معتبرين، أمرهم بالتفكر في أحوالهم؛ (فلا تدخلوا عليهم)؛ أي: لا تدخلوا ديارهم، قال الخطابي: معنى الحديث: أنَّ الداخل في ديار القوم الذين أهلكوا بالعذاب إذا دخلها ولم يجلب ما يرى من آثار ما نزل بهم بكاءً، ولم يبعث حزنًا، إمَّا شفقة عليهم، وإمَّا خوفًا من حلول مثلها به؛ فهو قاسي القلب، قليل الخشوع، غير مستشعر للخوف والوجل، فلا يأمن إذا كان حاله هكذا أن يصيبه ما أصابهم، وهذا معنى قوله: (لا يصيبُكم)، وللمؤلف في (الأنبياء) : (أَن يصيبكم)؛ بفتح الهمزة، وفيه إضمار؛ تقديره: حذرًا أن يصيبكم، أو خشية أن يصيبكم (ما أصابهم)؛ أي: من العذاب، و (يصيبُكم) بالرفع؛ على أن (لا) نافية؛ لأنَّه استئناف كلام، وفسَّره ابن حجر؛ أي: لئلا يصيبكم، وردَّه إمامنا الشَّارح فقال: (الجملة الاستئنافية لا تكون تعليلًا)؛ فافهم، ثم قال ابن حجر: (ويجوز الجزم على أن «لا» ناهية، وهو أوجه)، واعترضه إمام الشَّارحين، فقال: (هذا مبنيٌّ على صحة الرواية بذلك، وقوله: «وهو أوجه» غير موجَّه؛ فإنَّه لم يبين وجهه) انتهى.
قلت: والظاهر من كلام ابن حجر أنه تفسير إعراب، ولم أر أحدًا من الشراح ذكر الرواية في ذلك، والظاهر: أنَّه بالرفع لا غير؛ لأنَّه استئناف كلام؛ فافهم.
وقال الكرماني: (فإن قلت: كيف يصيب عذاب الظالمين لغيرهم وقال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: ١٥]؟)
قلت: لا نسلِّم الإصابة إلى غير الظالمين، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: ٢٥]، وأمَّا الآية الأولى؛ فمحمولة على عذاب يوم القيامة، ولا نسلِّم أنَّ الذي يدخل موضعهم ولا يتضرع ليس بظالم؛ لأنَّ ترك التضرع فيما يجب التضرع فيه ظلمٌ، انتهى.
قلت: يعني: فيُطلب في حقه الخوف والاعتبار؛ لأنَّه تعالى مقلِّب القلوب، فلا يأمن المؤمن أن تكون عاقبته إلى مثل ذلك، ولا (١) يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
قال الكرماني: (فإن قلت: كيف دلالة الحديث على الترجمة؟ قلت: من جهة استلزامه مصاحبة الصلاة بأسرِها للبكاء، وهي مكروهة، بل لو ظهر من البكاء حرفان أو حرف مفهم، أو ممدود؛ تبطل صلاته) انتهى.
قلت: لا يلزم مصاحبة الصلاة بأسرها للبكاء؛ لأنَّ المراد بالحديث: الخوف والاعتبار، وهو يحصل بدون البكاء، ويلزم مصاحبة البكاء في جزء من الدخول، ولا يلزم في الصلاة البكاء؛ لأنَّ الصلاة محلٌّ للبكاء والخشوع؛ ولهذا قال ابن بطال: (والحديث يدلُّ على إباحة الصلاة هناك؛ لأنَّ الصلاة موضع بكاء وتضرع) انتهى.
قلت: وعلى هذا؛ فلا مطابقة للحديث على الترجمة، لكن قال إمام الشَّارحين: (هذا الحديث مطابق لأثر عليٍّ من حيث عدم النزول من النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لما مرَّ بالحجر ديار ثمود في حالة توجهه
(١) سقط من الأصل: (ولا).