للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

الإشارة إلى أنَّ الصلاة في مواضع الخسف مكروهة؛ لأنَّه قال: (أن عليًّا) : هو الصديق الأصغر ابن أبي طالب رضي الله عنه (كره الصلاة) : فرضها، وواجبها، ونفلها (بخسف بابل) : اسم موضع بالعراق ينسب إليه السحر والخمر، قاله الجوهري، وقال البكري: (بابل بالعراق؛ مدينة السحر معروفة)، وقال الأخفش: (ممنوعة من الصرف؛ للعَلَمِيَّة والتأنيث)، قال إمام الشَّارحين: (وذلك أنَّ اسم كل شيء مؤنث إذا كان أكثر من ثلاثة أحرف؛ فإنَّه لا ينصرف في المعرفة)، قال: وربما سموا العراق: بابلًا، قال عمر بن أبي ربيعة -وأتى البصرة فضافه ابن هلال المعروف بصديق الجن-:

يا أهل بابل ما نَفَست عليكم... من عيشكم إلا ثلاث خِلال

ماء الفرات وظل عَيْش بارد... وغِنَى مسمعتين لابن هلال

وذكر الطبري: (أنَّ بابل: اسم قرية، أو موضع من مواضع الأرض، واختُلف فيها؛ فقال السدي: هي بابل دنياوند، وقيل: بالعراق، وورد في ذلك حديث مروي عن عائشة، وإنَّما سميت ببابل؛ لأنَّه بات الناس ولسانهم سرياني، فأصبحوا وقد تفرقت لغاتهم على اثنتين وسبعين لسانًا، كُلٌ يبلبل بلسانه، فسمي الموضع: بابلًا) انتهى.

قلت: والمشهور أنَّ أرض بابل من مدينة حلب وما وراءها؛ كمرعش، وديار بكر، وغيرهما؛ فافهم.

قال إمام الشَّارحين: (وهذا التعليق رواه ابن أبي شيبة: عن وكيع: حدثنا سفيان: حدثنا عبد الله بن شريك عن عبد الله بن أبي المُحِلِّ العامري قال: «كنا مع علي رضي الله عنه، فمررنا على الخسف الذي ببابل، فلم يُصلِّ حتى أجازه»؛ أي: تعداه، والمُحِلُّ بضمِّ الميم، وكسر الحاء المهملة، وتشديد اللام) انتهى.

قلت: وقد رواه ابن أبي شيبة من طريق أخرى عن علي قال: (ما كنت لأصلي في أرض خَسَف الله بها ثلاث مرار)، قاله ابن حجر، ثم قال: (والظاهر أنَّ قوله: «ثلاث مرار» ليس متعلقًا بالخسف؛ لأنَّه ليس فيه إلا خسف واحد، وإنَّما أراد الرواي: أنَّ عليًّا قال ذلك ثلاثًا) انتهى.

قلت: وفيه نظر، بل الظاهر أنَّ قوله: (ثلاث مرار)، متعلق بالخسف؛ يعني: أنَّ الخسف وقع لهذه الأرض ثلاث مرار؛ بأن خسف بها أولًا، ثم أعيدت، ثم خسف بها ثانيًا، ثم أعيدت، ثم ثالثًا، ولا مانع من ذلك؛ لأنَّ القدرة صالحة، وفيه تنبيه إلى مبدأ الإنسان ومعاده ومبعثه، فقوله: (لأنَّه ليس فيه إلا خسف واحد)؛ ممنوع؛ لأنَّها دعوى بلا دليل، وهي غير مقبولة.

وقوله: (وإنَّما الراوي...) إلى آخره؛ ممنوع أيضًا؛ لأنَّه لو كان كذلك؛ لكان يقال: (ثلاثًا) بدون تصريح بقوله: (مرار) الدالة على تكرار وقوع الخسف، فصريح قوله: (ثلاث مرار) يدل لما قلناه؛ فليُحفظ.

قال إمام الشَّارحين: (وروى أبو داود في «سننه» من حديث حجاج بن شداد عن أبي صالح الغفاري، عن علي رضي الله عنه: «أنَّه مر ببابل وهو يسير، فجاءه المؤذن يؤذن بصلاة العصر، فلما برز منها؛ أتى المؤذن فأقام، فلما فرغ من الصلاة؛ قال: إن حبيبي صلَّى الله عليه وسلَّم نهاني أن أصلي في المقبرة، ونهاني أن أصلي في أرض بابل؛ فإنَّها ملعونة»، قال ابن يونس: «أبو صالح الغفاري سعيد بن عبد الرحمن روى عن علي، وما أظنه سمع منه»، وقال ابن القطان: «في سنده رجال لا يُعرفون»، وقال عبد الحق: «حديث واه»، وقال البيهقي: «إسناده غير قوي») انتهى.

قلت: وحاصله أنَّه ضعيف، وزعم ابن حجر أنَّ اللائق بتعليق المؤلف ما رواه ابن أبي شيبة، انتهى.

ورده العجلوني فقال: (ما رواه أبو داود وابن أبي شيبة كلاهما لائق به، وما رواه أبو داود أليق؛ لأنَّ المؤلف أورده بصيغة التمريض؛ فتأمل) انتهى.

قلت: تأملته؛ فرأيته في غاية من الحسن، بل قلت: إنَّ ما رواه أبو داود هو اللائق قطعًا بتعليق المؤلف؛ لأنَّه قد صرح به: بأنَّها ملعونة؛ يعني: لم ينزل عليها من الرحمات شيء، وقول المؤلف: (ويذكر) صيغة تمريض تدل على ضعف إسناد الحديث، وقد صرَّح الأئمة بضعفه، كما علمت؛ فافهم.

والمراد بالخسف: ما ذكره الله تعالى بقوله: {فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ القَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ...}؛ الآية [النحل: ٢٦]، قال الإمام النسفي: (إنَّ هذا البناء كان لبختنصر)، وقال ابن عبَّاس وزيد بن أسلم: (هو صرح نمرود بن كنعان)، قال ابن عبَّاس: (كان طوله في السماء خمسة آلاف ذراع)، وقال كعب: (كان طوله في السماء فرسخين)، وبه قال مقاتل، انتهى.

وقال أهل الأخبار: إنَّ المراد بذلك ما بناه نمرود بن كنعان؛ فإنَّه بنى ببابل بنيانًا عظيمًا يقال له: المجدل؛ أي: القصر، انتهى.

قال النسفي: (قال مقاتل: فهبت ريح فألقت رأسها في البحر، وخَرَّ عليهم الباقي من فوقهم، وذلك لأنَّهم كانوا يترصدون (١) خبر السماء، فأهب الله الريح، فخرَّ عليه وعلى قومه فهلكوا).

قال الخطابي: (لا أعلم أحدًا من العلماء حَرَّم الصلاة في أرض بابل، وقد عارضه ما هو أصح منه، وهو قوله عليه السَّلام: «جعلت لي الأرض مسجدًا»، ويشبه إن ثبت الحديث أن يكون نهاه أن يتخذها وطنًا ومقامًا، فإذا أقام بها؛ كانت صلاته بها، وهذا من باب التعليق في علم البيان) انتهى.

قال إمام الشَّارحين: (قلت: أراد بها الملازمة الشرعية؛ لأنَّ من لَازِمِ إقامة الشخص بمكان أن تكون صلاته فيه، فيكون من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم، وإنَّما قيدنا الملازمة بالشرعية؛ لانتفاء الملازمة العقلية) انتهى كلامه، وقد اختصر عبارته العجلوني ونسبها لنفسه؛ فليتنبه.

وقال الخطابي أيضًا: (لعل النهي لعلي خاصة، ألا ترى أنَّه قال: «نهاني»، ولعل ذلك إنذار منه ما لقي من المحنة بالكوفة) انتهى.

قلت: دعواه الخصوصية تحتاج إلى دليل، وقوله: (نهاني) لا يدل عليها؛ لأنَّه عليه السَّلام قال ذلك له عند إرادته السفر، فهو توصية له بذلك، وهي على العموم، ولهذا ترجم المؤلف بـ (باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب)، ولم يجعل ذلك خاصًّا بعلي؛ فافهم.

على أنَّ الظاهر: أنَّه نهاه أن يتخذها وطنًا؛ لأنَّه إذا أقام بها كانت صلاته بها؛ فتأمل.

وقال إمام الشَّارحين: (وقد وردت أحاديث فيها النهي عن الصلاة في مواضع؛ منها: حديث ابن عمر: «أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نهى أن


(١) في الأصل: (يترصدوا)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>