للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

الجسم من مكة إلى بيت المقدس، ثم منه إلى ما فوق العرش في مقدار ثلث الليل مما لا يقبله العقل، وكذا استحاله أهل الفلك والحكماء؛ بناء على أنَّ السماء جرم من الأجرام مركب على قوائم بالأرض، فبالصعود إليها ينخرق منها موضع لعروجه، والجرم متى انخرق؛ سقط، وهذا مردود.

قال الإمام: ومما يدل على جواز الإسراء عقلًا أنه ثبت في الهندسة: أن قرص الشمس يساوي كرة الأرض مئة ونيفًا وستين مرة، ثم إنا نشاهد أن طلوع القرص يحصل في زمان لطيف سريع، وذلك يدل على أن بلوغ الحركة في السرعة إلى الحد المذكور أمر ممكن في نفسه غاية ما في الباب أنه يبقى التعجب إلا أن مثله لا يختص بهذا المقام، بل هو حاصل في جميع المعجزات، فمجرد التعجب لا يستلزم الإنكار والبطلان، وأيضًا كما يستبعد في العقل صعود الجسم الكثيف من مركز العالم إلى ما فوق العرش، فكذلك يستبعد نزول الجسم اللطيف الروحاني من فوق العرش إلى مركز العالم، فإن كان القول بمعراج النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في ليلة واحدة ممتنعًا؛ كان القول بنزول جبريل عليه السَّلام من العرش إلى مكة في اللحظة الواحدة ممتنعًا، ولو حكمنا بهذا الامتناع؛ كان ذلك طعنًا في نبوة جميع الأنبياء عليهم السلام، والقول بثبوت المعراج متفرع على تسليم جواز أصل النبوة، فثبت أنَّ القائلين: بامتناع حصول حركة جسمانية سريعة إلى هذا الحد؛ يلزمهم القول بامتناع نزول جبريل عليه السَّلام في لحظة واحدة من العرش إلى مكة، ولما كان ذلك باطلًا؛ كان ما ذكر أيضًا باطلًا.

فإن قالوا: نحن لا نقول: أنَّ الحجب الجسمانية عن روح النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم حتى يظهر في روحه من المكاشفات والمشاهدات بعض ما كان حاضرًا منجليًا في ذات جبريل عليه السَّلام.

قلنا: تفسير الوحي بهذا الوجه هو قول الحكماء، وأما جمهور المفسرين؛ فهم يقرون بأن جبريل عليه السَّلام جسم، وأن نزوله عبارة عن انتقاله من عالم الأملاك إلى مكة، وإذا كان كذلك؛ كان الإلزام المذكور قويًّا، وهذا تقرير ما ذهب إليه الأكثرون، والله تعالى أعلم.

وقال إمام الشَّارحين: (فإن قلت: ما وجه ذكره هذا الباب بعد قوله: «كتاب الصلاة»، وما وجه تتويج الأبواب الآتية بهذا الباب؟

قلت: لأنَّ هذا الكتاب مشتمل على أمور الصلاة وأحوالها، ومن جملتها معرفة كيفية فرضيتها؛ لأنَّها هي الأصل، والباقي عارض، فما بالذات مقدم على ما بالصفات) انتهى.

(وقال ابن عباس) هو عبد الله، حبر هذه الأمة، وترجمان القرآن، وهذا تعليق من البخاري، وقطعة من حديث طويل مسند ذكره في أول الكتاب: (حدثني)؛ بالإفراد (أبو سفيان) : هو صخر بن حرب؛ بصاد مهملة، وخاء معجمة، آخره راء، وفي الثاني: بحاء مهملة، وراء، وموحدة، ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي الأموي المكي، وهو والد سيدنا معاوية الكبير وإخوته (١)، أسلم ليلة الفتح، ومات بالمدينة سنة إحدى وثلاثين، وهو ابن ثمان وثمانين سنة، وصلى عليه عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهم (في حديث هِرَقل)؛ بكسر الهاء، وفتح الراء على المشهور، وحكى جماعة: إسكان الراء، وكسر القاف؛ كخندف؛ منهم الجوهري؛ وهو اسم أعجمي تكلمت به العرب علم غير منصرف؛ للعلمية والعجمة، ملك إحدى وثلاثين سنة، وفي ملكه توفي النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ولقبه قيصر، وهو ملك الروم، كما أن من ملك الفرس؛ يقال له: كسرى، ومن ملك الترك؛ يقال له: خاقان.

قال المؤلف في أول الكتاب: حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أن عبد الله بن عباس أخبره: (أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش...) إلى أن قال: (وسألتك بما يأمركم، فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان...)؛ الحديث، وفيه قوله: (فقال)؛ أي: أبو سفيان لهرقل (يأمرنا) : وفي رواية المؤلف: (ويأمرنا)؛ بالواو (يعني) أي: يقصد ويريد (النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) : فلفظة (النبي) منصوبة؛ لأنَّه مفعول لقوله: (يعني)، ومرفوعة فاعل لقوله: (يأمرنا) (بالصلاة)؛ أي: بإقامة العبادة المخصوصة، والأفعال المعلومة، المفتتحة بالتكبير، المختتمة بالتسليم، فيفعلونها سالمة عن الاعوجاج، والميل عن الحالة التي شرعت عليها، ويواظبون عليها ويؤدونها على أحسن الحالات، (والصدق)؛ أي: القول المطابق للواقع، وفي رواية للمؤلف: (ويأمرنا بالصلاة والصدقة)؛ يعني: الزكاة والنافلة، وفي رواية مسلم: (ويأمرنا بالصلاة والزكاة) (والعفاف)؛ أي: الانكفاف عن المحرمات وخوارم المروءات، وقد أخرج المؤلف هذا الحديث في أربعة عشر موضعًا، وأخرجه مسلم، والترمذي، والنسائي، ووجه مناسبته هنا في مطابقته للترجمة هو ما قاله إمام الشَّارحين: إن معرفة كيفية الشيء بالشيء تستدعي معرفة ذاته قبلها (٢)، فأشار بهذا أولًا إلى ذات الصلاة من حيث الفرضية، ثم أشار إلى كيفية فرضيتهما بذكر حديث الإسراء، فصار ذكر قول ابن عباس المذكور توطئةً وتمهيدًا لبيان كيفيتها، فدخل فيها، فبهذا الوجه دخل تحت الترجمة، وهذا مما سنح به خاطري من الأنوار الإلهية، ولم يسبقني بهذا أحد من الشراح) انتهى.

وزعم ابن حجر أن وجه المناسبة في هذا للترجمة أن فيه الإشارة إلى أنَّ الصلاة فرضت بمكة قبل الهجرة؛ لأنَّ أبا سفيان لم يلق النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعد الهجرة إلى الوقت الذي اجتمع فيه بهرقل لقاء يتهيأ له معه أن يكون أمرًا له بطريق الحقيقة، والإسراء كان قبل الهجرة بلا خلاف، فظهرت المناسبة، ورده إمام الشَّارحين، فقال: قلت: الترجمة في كيفية الفرضية؛ يعني: كيف فرضت؟ لا في بيان وقت الفرض، فكيف تظهر المناسبة حتى يقول هذا القائل: فظهرت المناسبة، وليس في هذا الحديث الذي رواه ابن عباس مطولًا ما يشعر بكيفية فرضية الصلاة بل يذكر ذلك في حديث الإسراء الآتي؟ ولكن يمكن أن يوجه لذكر هذا ههنا وجه؛ وهو أن معرفة... إلى آخر ما ذكرناه عن إمام الشَّارحين، انتهى.

قلت: وقول ابن حجر: (لأن أبا سفيان لم يلق النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم) : ممنوع؛ لأنَّه لا دليل عليه.

وقوله: (لقاء يتهيأ...) إلخ: كلام متناقض


(١) في الأصل: (وأخواته)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (قبلهما)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>