للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشَّارِعِ، فَإِذَا زَالَ مَنْعُ الشَّارِعِ بِانْقِلَابِهِ خَلًّا وَجَبَ أَنْ يَزُولَ مَنْعُ نَفْسِهِ بِذَلِكَ، وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ لَا وَجْهَ لَهُ؛ فَإِذَا كَانَ التَّحْرِيمُ وَالتَّنْجِيسُ وَوُجُوبُ الْإِرَاقَةِ وَوُجُوبُ الْحَدِّ وَثُبُوتُ الْفِسْقِ قَدْ زَالَ بِزَوَالِ سَبَبِهِ فَمَا الْمُوجِبُ لِبَقَاءِ الْمَنْعِ فِي صُورَةِ الْيَمِينِ وَقَدْ زَالَ سَبَبُهُ؟

وَهَلْ يَقْتَضِي مَحْضُ الْفِقْهِ إلَّا زَوَالَ حُكْمِ الْيَمِينِ؟ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْحَالِفَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْهَا مِنْ شُرْبٍ غَيْرِ الْمُسْكِرِ، وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ، فَإِلْزَامُهُ بِبَقَاءِ " حُكْمِ الْيَمِينِ وَقَدْ زَالَ سَبَبُهَا إلْزَامٌ بِمَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ هُوَ، وَلَا أَلْزَمَهُ بِهِ الشَّارِعُ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ عَلَى رَجُلٍ أَنْ لَا يَقْبَلَ لَهُ قَوْلًا وَلَا شَهَادَةً لِمَا يَعْلَمُ مِنْ فِسْقِهِ، ثُمَّ تَابَ وَصَارَ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ؛ فَإِنَّهُ يَزُولُ حُكْمُ الْمَنْعِ بِالْيَمِينِ كَمَا يَزُولُ حُكْمُ الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ بِالشَّرْعِ، وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ هَذَا الطَّعَامَ أَوْ لَا يَلْبَسَ هَذَا الثَّوْبَ أَوْ لَا يُكَلِّمَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ وَلَا يَطَأَهَا لِكَوْنِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ، فَمَلَكَ الطَّعَامَ وَالثَّوْبَ وَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ فَأَكَلَ الطَّعَامَ وَلَبِسَ الثَّوْبَ وَوَطِئَ الْمَرْأَةَ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ بِيَمِينِهِ كَالْمَنْعِ بِمَنْعِ الشَّارِعِ، وَمَنْعُ الشَّارِعِ يَزُولُ بِزَوَالِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْمَنْعُ؛ فَكَذَلِكَ مَنْعُ الْحَالِفِ، وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ.

وَكَانَ سَبَبُ يَمِينِهِ أَنَّهَا تُعْمَلُ فِيهَا الْمَعَاصِي وَتُشْرِبُ الْخَمْرُ؛ فَزَالَ ذَلِكَ وَعَادَتْ مَجْمَعًا لِلصَّالِحِينَ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، أَوْ قَالَ: " لَا أَدْخُلُ هَذَا الْمَكَانَ " لِأَجْلِ مَا رَأَى فِيهِ مِنْ الْمُنْكَرِ، فَصَارَ بَيْتًا مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تُقَامُ فِيهِ الصَّلَوَاتُ لَمْ يَحْنَثْ بِدُخُولِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لِفُلَانٍ طَعَامًا، وَكَانَ سَبَبُ الْيَمِينِ أَنَّهُ يَأْكُلُ الرِّبَا، وَيَأْكُلُ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ؛ فَتَابَ وَخَرَجَ مِنْ الْمَظَالِمِ وَصَارَ طَعَامُهُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ أَوْ تِجَارَةٍ مُبَاحَةٍ لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ طَعَامِهِ، وَيَزُولُ حُكْمُ مَنْعِ الْيَمِينِ كَمَا يَزُولُ حُكْمُ مَنْعِ الشَّارِعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا بَايَعْت فُلَانًا، وَسَبَبُ يَمِينِهِ كَوْنِهِ مُفْلِسًا أَوْ سَفِيهًا؛ فَزَالَ الْإِفْلَاسُ وَالسَّفَهُ؛ فَبَايَعَهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَأَضْعَافُ أَضْعَافِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، كَمَا إذَا اُتُّهِمَ بِصُحْبَةِ مُرِيبٍ فَحَلَفَ لَا أُصَاحِبُهُ فَزَالَتْ الرِّيبَةُ وَخَلَفَهَا ضِدُّهَا فَصَاحَبَهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ الْمَرِيضُ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا أَوْ طَعَامًا وَسَبَبُ يَمِينِهِ كَوْنُهُ يَزِيدُ فِي مَرَضِهِ فَصَحَّ وَصَارَ الطَّعَامُ نَافِعًا لَهُ لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِهِ.

وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِمَسَائِلَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، فَمِنْهَا: لَوْ حَلَفَ لِوَالٍ أَنْ لَا أُفَارِقَ الْبَلَدَ إلَّا بِإِذْنِك فَعُزِلَ فَفَارَقَ الْبَلَدُ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَمِنْهَا: لَوْ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ لَا تَخْرُجِينَ مِنْ بَيْتِي إلَّا بِإِذْنِي، أَوْ عَلَى عَبْدِهِ لَا يَخْرُجُ إلَّا بِإِذْنِهِ، ثُمَّ طَلَّقَ الزَّوْجَةَ، وَأَعْتَقَ الْعَبْدَ فَخَرَجَا بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ، ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.

قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: لِأَنَّ قَرِينَةَ الْحَالِ تَنْقُلُ حُكْمَ الْكَلَامِ إلَى نَفْسِهَا، وَهُوَ يَمْلِكُ مَنْعَ الزَّوْجَةِ وَالْعَبْدِ مَعَ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِمَا؛ فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا دُمْتُمَا فِي مِلْكِي، وَلِأَنَّ السَّبَبَ يَدُلُّ عَلَى النِّيَّةِ فِي الْخُصُوصِ كَدَلَالَتِهِ عَلَيْهَا فِي الْعُمُومِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لِقَاضٍ أَنْ لَا أَرَى مُنْكَرًا إلَّا

<<  <  ج: ص:  >  >>