للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ قَبْضَ الْإِنْسَانِ مِنْ نَفْسِهِ وَإِبْرَائِهِ لِنَفْسِهِ مِنْ دَيْنِ الْغَرِيمِ بِفِعْلِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى أَخْرَجَ الدَّيْنَ وَضَارَبَ بِهِ فَقَدْ صَارَ الْمَالُ أَمَانَةً وَبَرِئَ مِنْهُ؛ وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى بِهِ شَيْئًا أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ الرَّاجِحُ فِي الدَّلِيلِ، وَلَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ، وَلَا يَقْتَضِي تَجْوِيزُهُ مُخَالَفَةَ قَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَلَا وُقُوعًا فِي مَحْظُورٍ مِنْ رِبًا وَلَا قِمَارٍ وَلَا بَيْعِ غَرَرٍ، وَلَا مَفْسَدَةَ فِي ذَلِكَ بِوَجْهٍ مَا؛ فَلَا يَلِيقُ بِمَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ الْمَنْعُ مِنْهُ، وَتَجْوِيزُهُ مِنْ مَحَاسِنِهَا وَمُقْتَضَاهَا.

وَقَوْلُهُمْ: " إنَّهُ يَتَضَمَّنُ إبْرَاءَ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ بِفِعْلِ نَفْسِهِ " كَلَامٌ فِيهِ إجْمَالٌ يُوهِمُ أَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ، وَبِالْفِعْلِ الَّذِي بِهِ يَبْرَأُ، وَهَذَا إيهَامٌ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا بَرِئَ بِمَا أَذِنَ لَهُ رَبُّ الدَّيْنِ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ الَّذِي تَضَمَّنَ بَرَاءَتَهُ مِنْ الدَّيْنِ، فَأَيُّ مَحْذُورٍ فِي أَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا أَذِنَ لَهُ فِيهِ رَبُّ الدَّيْنِ، وَمُسْتَحِقُّهُ يَتَضَمَّنُ بَرَاءَتَهُ؟ فَكَيْفَ يُنْكِرُ أَنْ يَقَعَ فِي الْأَحْكَامِ الضِّمْنِيَّةِ التَّبَعِيَّةِ مَا لَا يَقَعُ مِثْلُهُ فِي الْمَتْبُوعَاتِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ؟ حَتَّى لَوْ وَكَّلَهُ أَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يُبَرِّئَ نَفْسَهُ مِنْ الدَّيْنِ جَازَ وَمَلَكَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ الْمَرْأَةَ أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا؛ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ طَلِّقِي نَفْسَك إنْ شِئْت، أَوْ يَقُولَ لِغَرِيمِهِ: أَبْرِي نَفْسَك إنْ شِئْت، وَقَدْ قَالُوا: لَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ مَلَكَ ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ، فَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الْإِعْتَاقِ مَلَكَهُ، فَلَوْ أَعْتَقَ نَفْسَهُ صَحَّ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَا يَصِحُّ لِمَانِعٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوَلَاءِ، نَعَمُ الْمَحْذُورُ أَنْ يَمْلِكَ إبْرَاءَ نَفْسِهِ مِنْ الدَّيْنِ بِغَيْرِ رِضَا رَبِّهِ وَبِغَيْرِ إذْنِهِ؛ فَهَذَا هُوَ الْمُخَالِفُ لِقَوَاعِد الشَّرْعِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَالدَّيْنُ لَا يَتَعَيَّنُ، بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ كُلِّيٌّ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ، فَإِذَا أَخْرَجَ مَالًا وَاشْتَرَى بِهِ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الدَّيْنُ، وَرَبُّ الدَّيْنِ لَمْ يُعَيِّنْهُ، فَهُوَ بَاقٍ عَلَى إطْلَاقِهِ.

قِيلَ: هُوَ فِي الذِّمَّةِ مُطْلَقٌ، وَكُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ طَابَقَهُ صَحَّ أَنْ يُعَيَّنَ عَنْهُ وَيُجْزِئَ، وَهَذَا كَإِيجَابِ الرَّبِّ تَعَالَى الرَّقَبَةَ الْمُطْلَقَةَ فِي الْكَفَّارَةِ فَإِنَّهَا غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، وَلَكِنْ أَيُّ رَقَبَةٍ عَيَّنَهَا الْمُكَلَّفُ وَكَانَتْ مُطَابِقَةً لِذَلِكَ الْمُطْلَقِ تَأَدَّى بِهَا الْوَاجِبُ.

وَنَظِيرُهُ هَاهُنَا أَنَّ أَيَّ فَرْدٍ عَيَّنَهُ وَكَانَ مُطَابِقًا لِمَا فِي الذِّمَّةِ تَعَيَّنَ وَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ.

وَهَذَا كَمَا يَتَعَيَّنُ عِنْدَ الْأَدَاءِ إلَى رَبِّهِ، وَكَمَا يَتَعَيَّنُ عِنْدَ التَّوْكِيلِ فِي قَبْضِهِ؛ فَهَكَذَا يَتَعَيَّنُ عِنْدَ تَوْكِيلِهِ لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ أَنْ يُعَيِّنَهُ ثُمَّ يُضَارِبَ بِهِ أَوْ يَتَصَدَّقَ أَوْ يَشْتَرِيَ بِهِ شَيْئًا؛ وَهَذَا مَحْضُ الْفِقْهِ وَمُوجَبُ الْقِيَاسِ، وَإِلَّا فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ تَعَيُّنِهِ إذَا وَكَّلَ الْغَيْرَ فِي قَبْضِهِ وَالشِّرَاءِ أَوْ التَّصَدُّقِ بِهِ وَبَيْنَ تَعْيِينِهِ إذَا وَكَّلَ مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ أَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>