بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ أَنْ أَوْجَبَ بَدَلَهُ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ مُوَالَاةُ الْقَاتِلِ وَنُصْرَتُهُ، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ إعَانَتَهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَهَذَا كَإِيجَابِ النَّفَقَاتِ عَلَى الْأَقَارِبِ وَكِسْوَتِهِمْ، وَكَذَا مَسْكَنُهُمْ وَإِعْفَافُهُمْ إذَا طَلَبُوا النِّكَاحَ، وَكَإِيجَابِ فِكَاكِ الْأَسِيرِ مِنْ بَلَدِ الْعَدُوِّ؛ فَإِنَّ هَذَا أَسِيفٌ بِالدِّيَةِ الَّتِي لَمْ يَتَعَمَّدْ سَبَبَ وُجُوبِهَا وَلَا وَجَبَتْ بِاخْتِيَارِ مُسْتَحِقِّهَا كَالْقَرْضِ وَالْبَيْعِ، وَلَيْسَتْ قَلِيلَةً؛ فَالْقَاتِلُ فِي الْغَالِبِ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَمْدِ؛ فَإِنَّ الْجَانِيَ ظَالِمٌ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ لَيْسَ أَهْلًا أَنْ يُحْمَلَ عَنْهُ بَدَلُ الْقَتْلِ؛ وَبِخِلَافِ شِبْهِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّهُ قَاصِدٌ لِلْجِنَايَةِ مُتَعَمِّدٌ لَهَا، فَهُوَ آثِمٌ مُعْتَدٍ، وَبِخِلَافِ بَدَلِ الْمُتْلَفِ مِنْ الْأَمْوَالِ؛ فَإِنَّهُ قَلِيلٌ فِي الْغَالِبِ لَا يَكَادُ الْمُتْلِفُ يَعْجِزُ عَنْ حَمْلِهِ، وَشَأْنُ النُّفُوسِ غَيْرُ شَأْنِ الْأَمْوَالِ؛ وَلِهَذَا لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ مَا دُونَ الثُّلُثِ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ لِقِلَّتِهِ وَاحْتِمَالِ الْجَانِي حَمْلَهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَحْمِلُ مَا دُونَ أَقَلَّ الْمُقَدَّرِ كَأَرْشِ الْمُوضِحَةِ وَتَحْمِلُ مَا فَوْقَهُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَحْمِلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ طَرْدًا لِلْقِيَاسِ؛ وَظَهَرَ بِهَذَا كَوْنُهَا لَا تَحْمِلُ الْعَبْدَ فَإِنَّهُ سِلْعَةٌ مِنْ السِّلَعِ وَمَالٌ مِنْ الْأَمْوَالِ، فَلَوْ حَمَلَتْ بَدَلَهُ لَحَمَلَتْ بَدَلَ الْحَيَوَانِ وَالْمَتَاعِ؛ وَأَمَّا الصُّلْحُ وَالِاعْتِرَافُ فَعَارِضَ هَذِهِ الْحِكْمَةَ فِيهِمَا مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَدْ يَتَوَاطَآنِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْجِنَايَةِ وَيَشْتَرِكَانِ فِيمَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ وَيَتَصَالَحَانِ عَلَى تَغْرِيمِ الْعَاقِلَةِ، فَلَا يَسْرِي إقْرَارُهُ وَلَا صُلْحُهُ، فَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنْ الْغَرَامَةِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّ الصُّلْحَ وَالِاعْتِرَافَ يَتَضَمَّنُ إقْرَارَهُ وَدَعْوَاهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِمْ؛ فَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ، وَيُقْبَلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُعْتَرِفِ كَنَظَائِرِهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ إيجَابَ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ جِنْسِ مَا أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَى الْمُحْتَاجِينَ كَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.
وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْحِكْمَةِ الَّتِي بِهَا قِيَامُ مَصْلَحَةِ الْعَالَمِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَسَّمَ خَلْقَهُ إلَى غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ، وَلَا تَتِمُّ مَصَالِحُهُمْ إلَّا بِسَدِّ خَلَّةِ الْفَقِيرِ، فَأَوْجَبَ سُبْحَانَهُ فِي فُضُولِ أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ مَا يَسُدُّ [بِهِ] خَلَّةَ الْفُقَرَاءِ، وَحَرَّمَ الرِّبَا الَّذِي يَضُرُّ بِالْمُحْتَاجِ، فَكَانَ أَمْرُهُ بِالصَّدَقَةِ وَنَهْيُهُ عَنْ الرِّبَا أَخَوَيْنِ شَقِيقَيْنِ؛ وَلِهَذَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: ٢٧٦] وَقَوْلُهُ: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: ٣٩] وَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَحْكَامَ النَّاسِ فِي الْأَمْوَالِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: عَدْلٌ، وَظُلْمٌ، وَفَضْلٌ؛ فَالْعَدْلُ الْبَيْعُ، وَالظُّلْمُ الرِّبَا، وَالْفَضْلُ الصَّدَقَةُ؛ فَمَدَحَ الْمُتَصَدِّقِينَ وَذَكَرَ ثَوَابَهُمْ، وَذَمَّ الْمُرَابِينَ وَذَكَرَ عِقَابَهُمْ، وَأَبَاحَ الْبَيْعَ وَالتَّدَايُنَ إلَى أَجْلٍ مُسَمًّى.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ حَمْلَ الدِّيَةِ مِنْ جِنْسِ مَا أَوْجَبَهُ مِنْ الْحُقُوقِ لِبَعْضِ الْعِبَادِ عَلَى بَعْضٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute