للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْمُقَدِّمَتَانِ غَيْرُ مَعْلُومَتَيْنِ؛ أَمَّا الْأُولَى فَإِنَّ الشَّارِعَ اسْتَعْمَلَ لَفْظَ التَّمْلِيكِ فِي النِّكَاحِ فَقَالَ: «مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ» «وَأَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا» ، وَلَمْ يَأْتِ مَعَهُ بِلَفْظِ إنْكَاحٍ وَلَا تَزْوِيجٍ، وَأَبَاحَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ النِّكَاحَ وَرَدَّ فِيهِ الْأَمَةَ إلَى مَا تَتَعَارَفُهُ نِكَاحًا بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَقْسِيمَ الْأَلْفَاظِ إلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ تَقْسِيمٌ شَرْعِيٌّ، فَإِنْ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ كَانَ بَاطِلًا، فَمَا هُوَ الضَّابِطُ لِذَلِكَ؟ وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فَكَوْنُ اللَّفْظِ صَرِيحًا أَوْ كِنَايَةً أَمْرٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عُرْفِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَكَمْ مِنْ لَفْظٍ صَرِيحٍ عِنْدَ قَوْمٍ وَلَيْسَ بِصَرِيحٍ عِنْدَ آخَرِينَ، وَفِي مَكَان دُونَ مَكَان وَزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ صَرِيحًا فِي خِطَابِ الشَّارِعِ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا عِنْدَ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ، وَهَذَا ظَاهِرٌ.

[جَوَّزَ الشَّارِعُ الْمُعَاوَضَةَ عَلَى الْمَعْدُومِ]

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قَوْلَهُ: " إنَّ الْإِجَارَةَ نَوْعٌ مِنْ الْبَيْعِ " إنْ أَرَادَ بِهِ الْبَيْعَ الْخَاصَّ فَبَاطِلٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْبَيْعَ الْعَامَّ فَصَحِيحٌ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ: " إنَّ هَذَا الْبَيْعَ لَا يُرَدُّ عَلَى مَعْدُومٍ " دَعْوَى بَاطِلَةٌ؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ جَوَّزَ الْمُعَاوَضَةَ عَلَى الْمَعْدُومِ، فَإِنْ قِسْتُمْ بَيْعَ الْمَنَافِعِ عَلَى بَيْعِ الْأَعْيَانِ فَهَذَا قِيَاسٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ؛ فَإِنَّ الْمَنَافِعَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْقَدَ عَلَيْهَا فِي حَالِ وُجُودِهَا أَلْبَتَّةَ، بِخِلَافِ الْأَعْيَانِ، وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَهَا الْحِسُّ وَالشَّرْعُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَنْ يُؤَخَّرَ الْعَقْدُ عَلَى الْأَعْيَانِ الَّتِي لَمْ تُخْلَقْ إلَى أَنْ تُخْلَقَ كَمَا نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ وَحَبَلَ الْحَبَلَةِ وَالثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهُ وَالْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَنَهَى عَنْ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا يَمْتَنِعُ مِثْلُهُ فِي الْمَنَافِعِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُبَاعَ إلَّا فِي حَالِ عَدَمِهَا، فَهَاهُنَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: يُمْكِنُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ فِي حَالِ وُجُودِهِ وَحَالِ عَدَمِهِ، فَنَهَى الشَّارِعُ عَنْ بَيْعِهِ حَتَّى يُوجَدَ وَجَوَّزَ مِنْهُ بَيْعُ مَا لَمْ يُوجَدْ تَبَعًا لِمَا وُجِدَ إذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ، وَبِدُونِ الْحَاجَةِ لَمْ يُجَوِّزْهُ.

وَالثَّانِي: مَا لَا يُمْكِنُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ إلَّا فِي حَالِ عَدَمِهِ كَالْمَنَافِعِ؛ فَهَذَا جُوِّزَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ.

فَإِنْ قُلْتَ: أَنَا أَقِيسُ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَأَجْعَلُ الْعِلَّةَ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ مَعْدُومًا.

قِيلَ: هَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَقَوْلُكَ: " إنَّ الْعِلَّةَ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ مَعْدُومًا " دَعْوَى بِغَيْرِ دَلِيلٍ.

بَلْ دَعْوَى بَاطِلَةٌ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي الْأَصْلِ كَوْنَهُ مَعْدُومًا يُمْكِنُ تَأْخِيرَ بَيْعِهِ إلَى زَمَنِ وُجُودِهِ؟ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْعِلَّةُ مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمٍ خَاصٍّ، وَأَنْتَ لَمْ تُبَيِّنْ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ مُجَرَّدُ كَوْنِهِ مَعْدُومًا؛ فَقِيَاسُكَ فَاسِدٌ، وَهَذَا كَافٍ فِي بَيَانِ فَسَادِهِ بِالْمُطَالَبَةِ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ بُطْلَانَهُ فِي نَفْسِهِ، فَنَقُولُ: مَا ذَكَرْنَاهُ عِلَّةٌ مُطَّرِدَةٌ، وَمَا ذَكَرْتَهُ عِلَّةٌ مُنْتَقَضَةٌ، فَإِنَّكَ إذَا عَلَّلْتَ بِمُجَرَّدِ الْعَدَمِ وَرَدَ عَلَيْكَ النَّقْضُ بِالْمَنَافِعِ كُلِّهَا وَبِكَثِيرٍ مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>