بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقْطَعُ لَحْمَهُ فِي حَالِ غِيبَةِ رُوحِهِ عَنْهُ بِالْمَوْتِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُغْتَابُ عَاجِزًا عَنْ دَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِكَوْنِهِ غَائِبًا عَنْ ذَمِّهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ الَّذِي يُقَطَّعُ لَحْمُهُ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَمَّا كَانَ مُقْتَضَى الْأُخُوَّةِ التَّرَاحُمَ وَالتَّوَاصُلَ وَالتَّنَاصُرَ فَعَلَّقَ عَلَيْهَا الْمُغْتَابُ ضِدَّ مُقْتَضَاهَا مِنْ الذَّمِّ وَالْعَيْبِ وَالطَّعْنِ كَانَ ذَلِكَ نَظِيرَ تَقْطِيعِ لَحْمِ أَخِيهِ، وَالْأُخُوَّةُ تَقْتَضِي حِفْظَهُ وَصِيَانَتَهُ وَالذَّبَّ عَنْهُ، وَلَمَّا كَانَ الْمُغْتَابُ مُتَمَتِّعًا بِعَرْضِ أَخِيهِ مُتَفَكِّهًا بِغِيبَتِهِ وَذَمِّهِ مُتَحَلِّيًا بِذَلِكَ شُبِّهَ بِآكِلِ لَحْمِ أَخِيهِ بَعْدَ تَقْطِيعِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُغْتَابُ مُحِبًّا لِذَلِكَ مُعْجَبًا بِهِ شُبِّهَ بِمَنْ يُحِبُّ أَكْلَ لَحْمِ أَخِيهِ مَيْتًا، وَمَحَبَّتُهُ لِذَلِكَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ أَكْلِهِ، كَمَا أَنَّ أَكْلَهُ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى تَمْزِيقِهِ.
فَتَأَمَّلْ هَذَا التَّشْبِيهَ وَالتَّمْثِيلَ وَحُسْنَ مَوْقِعِهِ وَمُطَابِقَةَ الْمَعْقُولِ فِيهِ الْمَحْسُوسَ، وَتَأَمَّلْ إخْبَارَهُ عَنْهُمْ بِكَرَاهَةِ أَكْلِ لَحْمِ الْأَخِ مَيْتًا، وَوَصْفَهُمْ بِذَلِكَ فِي آخَرِ الْآيَةِ، وَالْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ فِي أَوَّلِهَا أَنْ يُحِبَّ أَحَدُهُمْ ذَلِكَ، فَكَمَا أَنَّ هَذَا مَكْرُوهٌ فِي طِبَاعِهِمْ فَكَيْفَ يُحِبُّونَ مَا هُوَ مِثْلُهُ وَنَظِيرُهُ: فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا كَرِهُوهُ عَلَى مَا أَحَبُّوهُ، وَشَبَّهَ لَهُمْ مَا يُحِبُّونَهُ بِمَا هُوَ أَكْرَهُ شَيْءٍ إلَيْهِمْ، وَهُمْ أَشَدُّ شَيْءٍ نُفْرَةً عَنْهُ؛ فَلِهَذَا يُوجِبُ الْعَقْلُ وَالْفِطْرَةُ وَالْحِكْمَةُ أَنْ يَكُونُوا أَشَدَّ شَيْءٍ نُفْرَةً عَمَّا هُوَ نَظِيرُهُ وَمُشْبِهُهُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَصْلٌ
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم: ١٨] .
فَشَبَّهَ تَعَالَى أَعْمَالَ الْكُفَّارِ فِي بُطْلَانِهَا وَعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِرَمَادٍ مَرَّتْ عَلَيْهِ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ؛ فَشَبَّهَ سُبْحَانَهُ أَعْمَالَهُمْ فِي حُبُوطِهَا وَذَهَابِهَا بَاطِلًا كَالْهَبَاءِ الْمَنْثُورِ لِكَوْنِهَا عَلَى غَيْرِ أَسَاس مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ وَكَوْنِهَا لِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَلَى غَيْرِ أَمْرِهِ بِرَمَادٍ طَيَّرَتْهُ الرِّيحُ الْعَاصِفُ فَلَا يَقْدِرُ صَاحِبُهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ وَقْتَ شِدَّةِ حَاجَتِهِ إلَيْهِ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ: {لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [إبراهيم: ١٨] لَا يَقْدِرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِمَّا كَسَبُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ عَلَى شَيْءٍ، فَلَا يَرَوْنَ لَهُ أَثَرًا مِنْ ثَوَابٍ وَلَا فَائِدَةٍ نَافِعَةٍ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ، مُوَافِقًا لِشَرْعِهِ، وَالْأَعْمَالُ أَرْبَعَةٌ، فَوَاحِدٌ مَقْبُولٌ وَثَلَاثُهُ مَرْدُودَةٌ؛ فَالْمَقْبُولُ الْخَالِصُ الصَّوَابُ، فَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا شَرَعَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَالثَّلَاثَةُ الْمَرْدُودَةُ مَا خَالَفَ ذَلِكَ.
وَفِي تَشْبِيهِهَا بِالرَّمَادِ سِرٌّ بَدِيعٌ، وَذَلِكَ لِلتَّشَابُهِ الَّذِي بَيْنَ أَعْمَالِهِمْ وَبَيْنَ الرَّمَادِ فِي إحْرَاقِ النَّارِ وَإِذْهَابِهَا لِأَصْلِ هَذَا وَهَذَا، فَكَانَتْ الْأَعْمَالُ الَّتِي لِغَيْرِ اللَّهِ وَعَلَى غَيْرِ مُرَادِهِ طُعْمَةً
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute