للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمُسْتَنْفِرَةِ مَعْنًى أَبْلَغُ مِنْ النَّافِرَةِ؛ فَإِنَّهَا لِشِدَّةِ نُفُورِهَا قَدْ اسْتَنْفَرَ بَعْضُهَا بَعْضًا وَحَضَّهُ عَلَى النُّفُورِ، فَإِنَّ فِي الِاسْتِفْعَالِ مِنْ الطَّلَبِ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ فَكَأَنَّهَا تَوَاصَتْ بِالنُّفُورِ، وَتَوَاطَأَتْ عَلَيْهِ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِفَتْحِ الْفَاءِ فَالْمَعْنَى أَنَّ الْقَسْوَرَةَ اسْتَنْفَرَهَا وَحَمَلَهَا عَلَى النُّفُورِ بِبَأْسِهِ وَشِدَّتِهِ.

فَصْلٌ.

وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: ٥] فَقَاسَ مَنْ حَمَّلَهُ سُبْحَانَهُ كِتَابَهُ لِيُؤْمِنَ بِهِ وَيَتَدَبَّرَهُ وَيَعْمَلَ بِهِ وَيَدْعُوَ إلَيْهِ ثُمَّ خَالَفَ ذَلِكَ وَلَمْ يَحْمِلْهُ إلَّا عَلَى ظَهْرِ قَلْبٍ، فَقِرَاءَتُهُ بِغَيْرِ تَدَبُّرٍ وَلَا تَفَهُّمٍ وَلَا اتِّبَاعٍ وَلَا تَحْكِيمٍ لَهُ وَعَمَلٍ بِمُوجِبِهِ، كَحِمَارٍ عَلَى ظَهْرِهِ زَامِلَةُ أَسْفَارٍ لَا يَدْرِي مَا فِيهَا، وَحَظُّهُ مِنْهَا حَمْلُهَا عَلَى ظَهْرِهِ لَيْسَ إلَّا؛ فَحَظُّهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَحَظِّ هَذَا الْحِمَارِ مِنْ الْكُتُبِ الَّتِي عَلَى ظَهْرِهِ؛ فَهَذَا الْمَثَلُ وَإِنْ كَانَ قَدْ ضُرِبَ لِلْيَهُودِ فَهُوَ مُتَنَاوِلٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِمَنْ حَمَلَ الْقُرْآنَ فَتَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ، وَلَمْ يُؤَدِّ حَقَّهُ، وَلَمْ يَرْعَهُ حَقَّ رِعَايَتِهِ.

فَصْلٌ.

وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ - وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: ١٧٥ - ١٧٦] فَشَبَّهَ سُبْحَانَهُ مَنْ آتَاهُ كِتَابَهُ وَعَلَّمَهُ الْعِلْمَ الَّذِي مَنَعَهُ غَيْرَهُ، فَتَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَآثَرَ سَخَطَ اللَّهِ عَلَى رِضَاهُ، وَدُنْيَاهُ عَلَى آخِرَتِهِ، وَالْمَخْلُوقَ عَلَى الْخَالِقِ؛ بِالْكَلْبِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَخْبَثِ الْحَيَوَانَاتِ، وَأَوْضَعِهَا قَدْرًا، وَأَخَسِّهَا نَفْسًا، وَهِمَّتُهُ لَا تَتَعَدَّى بَطْنُهُ، وَأَشَدُّهَا شَرُّهَا وَحِرْصًا، وَمِنْ حِرْصِهِ أَنَّهُ لَا يَمْشِي إلَّا وَخَطْمُهُ فِي الْأَرْضِ يَتَشَمَّمُ وَيَسْتَرْوِحُ حِرْصًا وَشَرَهًا، وَلَا يَزَالُ يَشُمُّ دُبُرَهُ دُونَ سَائِرِ أَجْزَائِهِ، وَإِذَا رَمَيْت إلَيْهِ بِحَجَرٍ رَجَعَ إلَيْهِ لِيَعَضَّهُ مِنْ فَرَطَ نَهْمَتِهِ، وَهُوَ مِنْ أَمْهَنِ الْحَيَوَانَاتِ، وَأَحْمَلِهَا لِلْهَوَانِ، وَأَرْضَاهَا بِالدَّنَايَا، وَالْجِيَفُ الْقَذِرَةُ الْمُرَوِّحَةُ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ اللَّحْمِ الطَّرِيِّ، وَالْعُذْرَةُ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ الْحَلْوَى، وَإِذَا ظَفِرَ بِمَيْتَةٍ تَكْفِي مِائَةَ كَلْبٍ لَمْ يَدَعْ كَلْبًا وَاحِدًا يَتَنَاوَلُ

<<  <  ج: ص:  >  >>