للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالذي لا يُخطئ في هذه الشريعة هو محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وأما مَن بعده فمجتهدون، وكلهم يريدون الخير، فمن أصاب منهم فله أجران، أجرٌ لاجتهاده، وأجرٌ لإصابته، ومن أخطأ فله أجرٌ لاجتهاده، ولا يُؤخذ على خطئه؛ إذ كان أهلًا للاجتهاد (١).

ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - صاحب هوى أو عصبية، وقد مرَّ أن الصحابة اجتهدوا، بل اجتهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مسائل لذلك قال العلماء: " بأنه لا يُقرُّ على الخطإ؛ فإن اجتهد في أمرٍ وتبيَّن خلافه نزل الوحي ليبيِّن له " (٢). فالرسول - صلى الله عليه وسلم - استشار الصحابة في أسرى بدر، فهناك من رأى قتلهم وهو عمر، وهناك من رأى أخذ الفداء منهم، وهو أبو بكر، ونزل القرآن مؤيِّدًا لأمر عمر بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [الأنفال: ٦٧] (٣).


(١) هذا معنى حديث أخرجه البخاري (٧٣٥٢) ومسلم (١٧١٦/ ١٥) عن عمرو بن العاص، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر ".
(٢) هذه من المسائل الأصولية المعتبرة عند أهل العلم:
يُنظر: " التبصرة في أصول الفقه " للشيرازي (ص ٥٢٤) وما بعدها قال: " يجوز الخطأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اجتهاده إلا أنه لا يقرأ عليه بل ينبه عليه ". وانظر: " الواضح في أصول الفقه " (٣/ ١١٨)، و" نهاية السول " للإسنوي (ص ٣٩٦).
(٣) هذا جزء من حديث طويل أخرجه مسلم (١٧٦٣/ ٥٨) وغيره عن ابن عباس، وفيه: قال ابن عباس: فلما أسروا الأسارى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر، وعمر: " ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ " فقال أبو بكر: يا نبي الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما ترى يا ابن الخطاب؟ " قلت: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنَّا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليًّا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكني من فلان - نسيبًا لعمر - فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر، ولم يهوَ ما قلت، فلما كان من الغد جئت، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يا رسول الله، أخبرني من أيِّ شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد =

<<  <  ج: ص:  >  >>