للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مدينة واحدة، فها هي المدينة التي عاش فيها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه الكرام والمؤمنون مِن بعدهم في القرون الأولى، ما عُرف أنَّه أُقيم فيها أكثر من جمعة، إذًا لو كانت الجمعة جائزة، أو كان تعدد الجمعة جائزًا لحصل ذلك من الرَّسُول -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولبينه للناس، لكن الرَّسُول -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُعَدِّد الجمع، ولم يأذن بذلك، ولم يُفعل في زمنه فَيُقره، فذلك دليل على أنَّها لا تتعدد. قالوا: ولم يحصل ذلك في زمن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وحتى في زمن عليٍّ بالنسبة للجمعة، رضي اللَّه عنهم جميعًا، إذًا الجمع لم تتعدد هنا (١).

ولكن يجاب عن ذلك: بأنَّ عدم تتعدد الجمع في المدينة إنَّما هو لعدة أسباب: يأتي في مقدمتها عدم الحاجة إلى ذلك، فهل المجتمع المدني في زمن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وفي زمن خلفائه الرَّاشدين هو بهذا الحجم، وبهذا العدد؟


(١) وهذا القول هو مشهور مذهب المالكية، وقول لبعض الشافعية.
انظر في مذهب المالكية: "الإشراف على نكت مسائل الخلاف"، للقاضي عبد الوهاب (١/ ٣٣٥)، وفيه قال: "لا تنعقد الجمعة في المِصر الواحد إلا في موضع واحد، خلافًا لأبي حنيفة ومحمد؛ لقول اللَّه تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا}، فكان هذا مجملًا، فبينه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بفعله، فأقام الجمعة في موضع واحد، مفتتحًا لها مبتدئًا أقيمت في خمس مواضع وأكثر، ولأن السعي إلى الأُولى قد وجب بالنداء إليها، والئانية يقع منهيًّا عنها؛ لأن على مَن يقيمها أن يسعى إلى الأولى ويترك ما هو فيه". وانظر: "شرح مختصر خليل"، للخرشي (٢/ ٥٢).
وانظر في مذهب الشافعية: "الحاوي الكبير"، للماوردي (٢/ ٤٤٨)، وفيه قال: "والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه: أنَّ الجمعة وشرائطها مُرتبط بفعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ومحدود فيه، فلا يتجاوز حكمها عن شرطه وفعله، فكان مما وصف به الجمعة وجعله شرطًا لها أن عطل لها الجماعات، وأقامها في مسجد واحد في أول الأمر، وعند انتشار المسلمين وكثرتهم، ثم جرى عليه الخلفاء -رضي اللَّه عنهم- بعده، ولو جازت في موضعين لأبان ذلك ولو مرة واحدة إمَّا بقوله أو بفعله، ولأنها لا تخلو من أحد أمرين: إمَّا أن يصح انعقادها في كل مسجد إلحاقًا بصلاة الجماعة، أو لَا يصحُّ انعقادها إلا في مسجد واحد اختصاصًا لها بتعطيل الجماعة، إذ ليس أصل ثابت ترد إليه، فلما لم يصح انعقادها في كل مسجد ثبت أنه لا يصحُّ انعقادها إلا في مسجد واحد".

<<  <  ج: ص:  >  >>